تغنيه بشغف العشّاق، فنانة تونسية تعتزّ بانتمائها الجغرافي وهويتها الموسيقية التي تحملها معها اينما غنّت زهرة الاجنف تلك المراة الثائرة على التقليدي والمنتصرة دوما للموسيقى قدمت عرضها «رقراق» ضمن فعاليات ليالي المتحف بسوسة.
«رقراق» جزء من مشروع غنائي تعمل عليه زهرة الاجنف منذ عدة اعوام، قدم في ثالث سهرات ليالي المتحف التظاهرة التي تنظمها المندوبية الجهوية للشؤون الثقافية بسوسة بالشراكة مع وكالة إحياء التراث لبعث الحياة وتنشيط الفضاءات الاثرية والتاريخية.
الموسيقى كتابة حية للتاريخ
تبدأ الرحلة مع ايقاعات الكمنجة الساحرة، نوتاتها الرقيقة تدغدغ الذاكرة وتخاطب خبايا الروح، كمنجة عطيل معاوي تخاطب من سكنوا هذا المكان، كلما ازدادت النغمات رقة كلما اقتربت من التراتيل الشعرية القديمة التي تغنى بها الشاعر «فيرجيل» وهو المحاط بآلهات الالهام، كذلك كمنجة عطيل معاوي محاطة بالتاريخ وحضارات كثيرة مرّت على حضرموت وتركت اثرها الجميل، بعدها يرتفع ذاك الصوت القوي الصادح ليخترق صمت المكان، تقبل زهرة الاجنف على جمهورها بكل طاقتها لتصحبه في رحلة موسيقية تجمع انماط مختلفة من العروبي الى الطبوع التونسية فالجاز والموسيقى الشرقية، جولة بين الموسيقات ورحلة بين ثنايا الامل والحبّ، عقد من لؤلؤ الموسيقى تبدع الزهرة في ترصيعه.
الموسيقى مطيتها للحلم، سبيلها لتجوب كل أصقاع البسيطة، احبّت الغناء، درست الموسيقى، كتبت أغان تشبه جنونها، سحرتها حكايات الجدات ووشمهنّ واهازيجهنّ في الأعراس، استنشقت عبق التراث والتاريخ من مدينتها «قبصة»، سالت عن سرّ تلك الدواميس في مدينة «السند البربرية»، سكنتها تلك النقوش الامازيغية والألوان الزاهية فحولت كل ذاك الجمال الى اغان وموسيقى.
زهرة الاجنف ليست مجرد مؤدية للغناء، بل فنانة حالمة لها مشروعها الغنائي، لها القدرة على تحويل الصورة الى أغنية، تتقن الكتابة والتلحين لتصنع عالم موسيقي تنتفي فيه كل الحدود الجغرافية، عالم ميزته موسيقى ونوتات صاخبة صخب الفنانة كلما صعدت على الركح بلباسها المستوحى من تراث مدينتها لتكون كما الالهة «هيرا» على ركحها، مساحتها الخالدة والأبدية مادام صوتها العاشق يغني للارض وللبهاء.
«رقراق» زهرة الاجنف شامة للخلود الموسيقي
تنسجم الإيقاعات الموسيقية مع سحر المكان، تخاطب الكمنجة صوت الروح ويرحل حنين الناي إلى خبايا التاريخ ليتجول بالجمهور في رحاب «جوستينا» الرومانية، ثم يوقظهم الطبل والإيقاعات ويكتب لنفسه مساحته الحرة مع التراث البدوي والامازيغي فيكون العمل لوحة فسيفسائية تتشكل من الكثير من الالوان الموسيقية وتتماهى مع الاعمال المعروضة داخل المتحف، وجميعها تخبر ان تونس كانت وستظل ارض للقاء والموسيقى والفنون.
زهرة الاجنف فنانة تونسية بحجم وطن،امراة قوية على الركحية، امازيغية شامخة شموخ جبل عرباطة، من مدينتها تعلمت الصمود والشموخ لتجسده في كلمات أغانيها، فنانة مولعة بالايقاعات الغربية وموسيقى الجاز وعاشقة للفن البدوي التونسي فجمّعت بينهما في اغانيها، أعادت توزيع بعض الأغاني المعروفة مثل «جمل يهدر» و»عالذرعانة» وكتبت أغان أخرى ولحنتها ليكون في رصيدها اثرها الفني الخاص بها، زهرة الاجنف لا تتعامل مع التراث بعقلية الغنيمة او الاستسهال بل تراه كنز وجب التعريف به والحفاظ على جوهره وبريقه الخلاب، تجمع حولها امهر العازفين وتنبش في الذاكرة الجماعية عن أغان تكاد تندثر فتبعث فيها الروح وتحييها من جديد لتصبح أيقونات تونسية الروح وعالمية التوزيع.
التراث ذاكرتها والزهرة فنانة تحافظ على ذاكرتها من التلاشي، تسقيها بماء الموسيقى وتمنحها من روحها المجنونة، التراث رصيدها الوطني تحاول ان تقدمه للجمهور مع مسحة من التجديد ليصل الى كل المولعين بالموسيقي، في عروضها لا تحتاج ان تفهم اللغة فالموسيقى وحدها لغة لا تحتاج الى ترجمة، من التراث القفصي انطلقت مسيرة فنانة تؤمن ان الذاكرة هوية، الذاكرة جزء من نجاح الحاضر، فنانة تبعث الحياة في اغان تكاد تنسى، فذاكرتها وموروثها جزء من روحها.
الفن سلاحها لتدافع عن ذاكرتها والذاكرة الجماعية، غنت للراحل الشاهد الابيض وقدمت اغان من موروث الجنوب التونسي، غنت للام باللغة الامازيغية فكانت الاغنية حزينة كانها ترانيم روح متألمة، غنت للاقليات اغنية من تراث «قبائل البيضان» المالية فموسيقاها تتجاوز كل الحدود وتؤمن ان الموسيقى صوت للانسان، فارتفعت ايقاعات السطمبالي وكانها تعلن عن حفلة للرقص على نخب الحياة والفرح، غنت من التراث الكافي «ريم الفيالة» وكان للايقاعات الشاوية حضورها في «رقراق» لتقدم لجمهورها لوحة فسيفسائية موشاة بكل التلوينات الموسيقية.
«رقراق» عرض موسيقي يتماهى مع تونس، ملوّن مثلها، ثريّ بالايقاعات والانماط الموسيقية المختلفة، رحلة بحث تقوم بها الفنانة في ذاكرتها وتاريخها وتراث موسيقي ثري تحاول ان تقدم البعض منه، «رقراق» تجربة موسيقية متميزة تنحتها فنانة تونسية لا تعرف معنى المستحيل، تونسية شامخة تعرف ان في موسيقاها حياتها وفي فنها خلودها، في متحف سوسة غنت للذاكرة، في مكان يعبق بجمالية التاريخ كتبت زهرة الاجنف اسطرا من الابداع في سجلات الموسيقى التونسية، فكانت «شامة» موسيقى ستظل خالدة.
عرض «رقراق» لزهرة الأجنف ضمن ليالي المتحف بسوسة: «هيدرومتوم» الرومانية تتغنّج على صوت «الرقراق»
- بقلم مفيدة خليل
- 10:55 05/09/2022
- 884 عدد المشاهدات
صوت بحجم وطن، حنجرة تخترق السماء وتتجاوزها كلما غنّت، حضور ركحي وطاقة حبّ جميلة تنثرها كما زهرات الربيع، امراة معتدّة بتراثها وتاريخها،