الحنين للتسعينات ولموسيقى المزود مع «عشاق الدنيا» لعبد الحميد بوشناق الذي افتتح فعاليات الدورة السادسة والخمسين للمهرجان.
«يا عاشقين النبي صليو عليه، اليوم خميس وغدوة خميس، حاضر محمد وغايب ابليس،زغرطوا يا نسا» هكذا يقول العشّاق فلنرحل إذن إلى فترة التسعينات في لقاء الحنين والذكريات بداية من صوت لطفي البحري وصولا إلى «الربوخ» والفرحة و»عشاق الدنيا عقولهم مسلوبة، الطبل يدوي والشطيح يدوّخ» في مزيج بين المسرح والغناء وتقنيات السينما يحيي بوشناق الابن شخصيات المسلسل على الركح.
الركح مساحة للعب والحب
«عشاق الدنيا» هم مزيج من الحالمين والباحثين في صناديق الذكريات،تزين الركح بديكور يحيل المتفرج الى سنوات التسعينات، التلفاز كبير الحجم، الصناديق الموشاة بأجمل الرسومات، و»الجلود» والمرقوم بالوانه الساحرة والقناديل الصغيرة الحجم الملونة و»البخور العجعاجي» والعشاق وجدي (عزيز الجبالي) يدعو الجميع للمتعة والانتشاء بالموسيقى، إلى سنوات التسعينات يحمل لطفي البحري بصوته الساحر الجمهور ليغوصوا في ذكريات الطفولة ويبحثوا عن أغان مخبئة في خانات الذاكرة، إلى فترة التسعينات بموسيقاها وألوانها وازيائها تكون الرحلة الموسيقية المسرحية، مزيج من الفنون تنسجم وتتماهى حد النشوة و»الدبك» (الرقص) كلما ضرب البندير وغنّت «الفرخة» (المزود) يكون عنوان نشوة موسيقية تونسية كلمة ولحنا وذكرى.
«عشاق الدنيا» عرض جمع «معلمية» المزود مع ممثلي مسلسل النوبة، لثلاث ساعات نقل عبد الحميد بوشناق أهم لقطات المسلسل على الركح جسدتها شخصيات أحبها جمهور المسلسل فبعث فيها الحياة من جديد على ركح قرطاج العظيم، أعاد للذاكرة قصة الحب التي جمعت ماهر (بلال بريكي) وحبيبة (اميرة الشبلي)و»قالولي روح البراني»، وقصة عشق وجدي (عزيز الجبالي) لفرح (ياسمين الديماسي)وجملته الشهيرة «حبوا بعضكم» والتقى الجمهور مع بابا الهادي يجول كامل الفضاء والبحري الرحالي سيد الركح والمسرح زاد الشخصية هيبة وجمالا، الى جلسات «دعبس» (جهاد الشارني)وأصدقائه والصراع الخفي بين «قنّوش» (حسين محنوش) والبوليس فتحي (مهذب الرميلي) وحب «برينقة» (الشادلي العرفاوي) لحبيبة ولهفته عليها كلما غنى «انا الي صنتك يا وردة»كل الجزئيات القوية في العمل حضرت على الرّكح، فكانت الحوارات الثنائية التي تسبق الأغاني او اللعب الفردي جزء من ذكريات مسلسل النوبة وإعادة حياة للشخصيات التي أحبها كاتبها فأخرجها من التلفزة الى الركح وترك لها المساحة المطلقة للعب.
أمام جمهور قرطاج تميز الممثلين، أبدع البحري الرحالي وكان تلقائيا في الأداء، تميز حسين محنوش بحضوره المهيب وهو العارف بأسرار المسرح وخبايا التفلزة، على ركح قرطاج كان أداء الشادلي العرفاوي أكثر صدقا من التلفزة وتميز بلال البريكي في شخصية ماهر التي ضجت بدمائها على الرّكح وكانت حالمة، امّا هالة عياد وريم الرياحي فكانا مثل شعلة من نار يحسن الانتقال من مشهد إلى آخر بتلقائية،واقنع مهذب الرميلي جمهوره وأقوى اللحظات مرور الشخصية من العقل الى الجنون ومهذب ممثل سلاحه صدقه وتماهيه مع الشخصية، على ركح قرطاج خرجت الشخصيات من ذاك الجهاز الصغير لتكون حية ومتحركة وصاخبة بالألوان والحب أمام جمهور «عشاق الدنيا».
آلة المزود سيدة العرض وصانعة الفرحة
تزين الركح، خرج من صمته، ازداد هيبة بالتفاصيل الجميلة الموجودة فوقه، توزع فريق العمل على كامل الفضاء، استغلوا الفضاء السفلي للعازفين والركح أصبح «دار وسيلة» و»بابا الهادي» ومكان للرقصات والجزء العلوي لنقل المشاهد الجانبية المرافقة للاغاني، توزيع الممثلين والراقصين على كامل الفضاء كان من نقاط القوة لمتابعة كل جزئيات العمل، توزيعهم كان يشبه لعملية تجميع ذكريات مشتتة أبدع المايسترو هشام الخذيري (عازف المزود) في تجميعها.
«عشاق الدنيا» عمل فرجوي يكرم موسيقى المزود من خلال حضور معلمّية هذا الفن عزفا وغناء، عازف المزود يوضع في مكان لوحده أعلى من بقية الآلات في إشارة إلى أفضلية تلك الآلة فهي سيدة الركح والفرجة، وهي التي ستصحب الجمهور إلى عوالم النوبة، نوبة الفرح، نوبة الهوس بالموسيقى ونوبة الرقص والحب، في عرض «عشاق الدنيا» يبدع هشام الخذيري في تجميع الإيقاعات المبعثرة والرقصات المتفرقة، تلك الآلة التونسية الصعبة المراس يطوّعها عازف عاشق فتلين لها الأجساد والأفكار وتتماهى في حضرتها كل التلونيات الفنية الأخرى وتخضع لسيطرتها الآلات الإيقاعية.
في فضاءه الموسيقي الشاسع من مزود «الربوخ « (جيب الواد الواد) و(بنت الحي) الى «المزموم» (يا نجوم الليل، يا وردة) الى «مزود المجاريح» (بنت الحي) يحلو اللقاء ومن إيقاعاتها الحزينة تنبعث الفرحة فيغني لطفي بوشناق أول اغاني العرض «كيف شبحت خيالك» ثم يكون الموعد مع فنانين كتبوا اسمائهم بكل الصدق في عالم المزود ليغني صالح الفرزيط وهشام سلام (يا نجوم الليل الضواية) وسمير الوصيف والتليلي القفصي (جيب الواد الواد) والحبيب الشنكاوي (يا وردة) ويغني «كافون» وعبد الوهاب الحناشي في مزج بين الوتري والإيقاعي، توليفة موسيقية تونسية صادقة.
عشاق الدنيا عرض موسيقي احتفى بالة المزود، احتفى بفترة التسعينات وجيل المزود من فنانين صنعوا ذواتهم الفنية وسط رفض السلطة والإعلام تلك الفترة لهذا النمط الموسيقي «انا مزاودي مانيش باندي» كما تقول شخصية «بابا الهادي» فالمزود كان في فترة ما وصم ينعت به «الباندية» ويصنف محبيه كجمهور درجة ثانية، لكن بعد مسلسل «النوبة» عاد لهذا الفن بريقه واقبل عليه الجمهور من جديد،على ركح قرطاج كانت آلة المزود سيدة المكان والفرجة، كانت الآلة صاحبة القرار متى تبدأ الفرحة ومتى ينتهي الرقص وكلما نطقت وسيلة «ورّق» تصدح الإيقاعات صاخبة وكأنها تنفض غبار النسيان عن فن شعبي تونسي أحيل على دكّة النسيان لأعوام، فتحيي الذكريات ومعها الحنين لفترة التسعينات بألوانها ورقصاتها ويعود «العشاق» من جديد لإحياء جذوة الحب الدائمة.
طول العرض افقده بريقه
عشاق الدنيا مغامرة يخوض غمارها عبد الحميد بوشناق بنقل الشخصيات وأقوى المشاهد من التلفزة الى الركح، مغامرة جريئة تحسب لشاب يبحث عن التجديد، العرض موسيقيا ومسرحيا مقنع ومتكامل وكان أداء الممثلين صادقا، لكن هناك هنّات ومنها:
طول مدة العرض كان سببا للضجر، فثلاث ساعات كاملة تضيع تركيز المتفرج وتجبره على القلق حتما.
نقل المشاهد كما هي من التلفزة الى الركح كان مزعجا أحيانا خاصة المشاهد الطويلة مثل مشهد حديث فتحي البوليس ومشهد تعذيب قنوش للطبيب.
بعض الفوضى في توزيع الممثلين والراقصين يستحق مراجعة.
ضرورة الانتباه للملابس بالنسبة لكورال الراقصين، بعضهم ازيائهم حديثة ولا تتماشى مع فترة التسعينات موضوع العمل.
عرض «عشاق الدنيا» لـ عبد الحميد بوشناق في افتتاح مهرجان قرطاج الدولي: موعد تونسي مع الفرح والحنين
- بقلم مفيدة خليل
- 11:27 16/07/2022
- 1583 عدد المشاهدات
تعود الحياة إلى ركح قرطاج الأثري، ها قد أنيرت الأضواء وعاد الصخب والحياة والفن، هاهي الجماهير تنتظر الساعات لدخول العروض والاستمتاع بما يقدمه المهرجان، تعود الحياة الى قرطاج وشارة العودة