العرض الأول لمسرحية «التائهون» إخراج نزار السعيدي: المسرح فضاء للرجة والكشف عن قبح المواطن وفوضى الوطن

موجع هذا الوطن، متعبة هي الحياة اثناء تتبع تفاصيل الحياة اليومية في تونس، منهك هو الانتباه للتفاصيل ودراستها ثم تحويلها الى عمل مسرحي مشحون

بطاقة من الغضب والحبّ للبلد، فالمسرح وسيلة لدراسة وضعية البلاد وتشريحها ثم تحويلها الى فرجة ونقد.
والمسرح وسيلة لاكتشاف اسباب العنف والجريمة ومحاولة استقرائها بطريقة فنية مختلفة وتقديمها للمتفرج عله يشعر بالرجة ويعمل الفكر ويستطيع طرح السؤال هكذا هو المسرح لدى نزار السعيدي مبحث للتجديد والسؤال قدمه في مسرحية «التائهون» تمثيل كل من تماضر الزرلي وانتصار عويساوي ومحمد شعبان وجمال ساسي ورمزي عزيز ومحمد علي بن سعيد والصادق الطرابلسي.
الكلّ مجرم والجميع مساهم في الفوضى
انفلات أمني، انفلات اخلاقي وانفلات مجتمعي وقيمي واجتماعي وانفلات سياسي كان نتيجته انتشار الفوضى في الاحزاب والسياسات والاقتصاد وانتشار غير مسبوق للجريمة، فالجريمة العنيفة اصبحت من المشهديات شبه اليومية التي يستفيق على وقعها المواطن التونسي، والى عوالم الجريمة البشعة وتفكيكها اجتماعيا ونفسيا يحمل نزار السعيدي جمهور مسرحية «التائهون» التي تنطلق بفيديو يوثق للفوضى في الشوارع الجانبية للعاصمة، تلك الانهج الغاصة بالمارة والحركة باتت فضاء للاختلاف والتناحر والفوضى البصرية والسمعية وثقتها الكاميرا لتكون جزءا من المسرحية.
احداث المسرحية تنبني على جريمة بشعة تهزّ البلاد، فتاة تقتل والدتها وتقوم بإنزال فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي تعترف فيه بالجريمة لتنطلق عملية البحث عن القاتلة الفارة وأثناء عملية البحث تفكك عوالم الجريمة وتحاول الشخصيات البحث عن الاسباب النفسية والاجتماعية التي دفعت بالفتاة لقتل والدتها، «اشراق» هو اسم الشخصية هي انموذج للمئات من المراهقين، عينة عن فتيات وفتيان يتعرضون للتنمر والضغط العائلي، تقصف احلامهم، ينقطع بعضهم عن التعليم اجبارا «هل تعلم ان ابنتك كانت نابغة في الدراسة؟» (حسب الاحصائيات للعام 2021 هناك 73 ألف تلميذ انقطعوا عن الدراسة)، فئة هشة نفسيا وجدت في ظرفية سياسية تميزت بالفوضى والصراع.
جيل ما بعد2011 نشأ في ظل الفوضى والتلاسن والشتم في وسائل الإعلام، جيل رضع الفوضى وكبر على عبارات التخوين والتخويف، جيل تربى على العنف في الشارع والتلفاز ووسائل التواصل الاجتماعي، جيل كبر مع لعبة «الفريفاير» و»البابجي» وألعاب دموية كثيرة تقوم على كلمات «الدموية، القتل» وكل هذه العوامل شكلت جيلا هشّا نفسيا، جيل يريد التحرر من كل القيود دون مراعاة النتائج و»اشراق» الشخصية التي تدور حولها احداث العمل إحداها، والتناقض بين «الاسم» ومعناه كان وسيلة السعيدي ليكشف قبح المجتمع وبشاعته، فإشراق لم تشرق علما ولا جمالا، بل اشرقت دموية وعنفا، وأظلمت كل فوانيس الامل وأشعلت مكانها الخوف.
فكم اشراقا في مجتمعنا؟ وكم مراهقا ارتكب جريمة شنعاء دون وجود مبرر اقتصادي او اجتماعي؟ كم مراهقا كان ضحية لمنظومة تعليمية مهترئة ونظام تربوي بال ومنظومة سياسية تسعى فقط للسيطرة على الكرسي دون مراعاة الشعب؟ كم مراهقا ظلمته المنظومة العائلية الباحثة عن المادة على حساب العاطفة؟ كم مراهقا ظلمه اساتذته وعوض تشجيعه غرسوا النصال في أحلامه؟ في المسرحية يختار السعيدي شخصية دموية تقرر افتكاك حقها بنفسها فتختار الدماء ونحر من ظلمها بداية من الأم وصولا الى الاستاذ.
صدق الممثل وسيلة لاستقراء المجتمع
«التائهون» هو عنوان المسرحية هي صفة للمجتمع التونسي، فجميعنا تائهون دون تمييز، الاستاذ تائه بين التجديد والمنظومة القديمة، الصحفي تائه بين اخلاق المهنة و»البوز» والمحامي تائه بين الحفاظ على اسرار مهنته و سلم الغنى السريع والفنان تائه بين احلامه وما يطلبه الجمهور، والسياسي تائه بين مبادئه والمنظومة السياسية المشوّهة، حسب العمل جميعنا تائه، وكلنا مشارك في ارتفاع منسوب الجريمة، كل تونسي لم ينتبه لواجباته هو جزء من منظومة فاسدة وجب اجتثاثها قبل استشراء مرض الجريمة في المجتمع.
«التائهون» مسرحية او مبحث اجتماعي ونقدي جديد يقدمه نزار السعيدي هو دراسة دقيقة تقدّم فنيا فبعد دراسة ظاهرة الارهاب في «سوس» وتشريح النخبة السياسية في «انتلجنسيا» وتفكيك ظاهرة الادمان في «قصر السعادة» يدرس في عمله الجديد ظاهرة الجريمة التي ارتفعت في تونس فحسب الاحصائيات هناك 25جريمة تحدث يوميا في تونس.
في «التائهون» يكون الممثلون هم عماد العمل المسرحي، اجسادهم تكتب ابجديات النجاح، يخطون احرفهم في مشهدية ابداعية موغلة في النقد والوجع، ركح خال من الديكور فقط كرسي احمر ينقل حسب الحدث والمشهد، اجساد الممثلين وأصواتهم وصدقهم في التعبير مع الاضاءة والموسيقى هي مقومات عمل نزار السعيدي، فللممثل مساحته المطلقة للتعبير واللعب وفي المسرحية حضرت اجيال مسرحية مختلفة تماهت لتقدم نصا يثقل الروح وأداء يربك المتفرج ويدفعه لطرح السؤال عن نزيف الجريمة في تونس ومحاولة البحث عن اسباب هذه الظاهرة ومراجعة الذات وجلدها في التعامل مع الاخرين.
فالمسرح مبحث للنقد، والمسرح مساحة حرة يستطيع المسرحي صاحب المشروع من خلالها تجسيد افكاره وبحوثه الفنية والاجتماعية الركح كما الاسفنجة يستطيع تشرب الافكار المختلفة والجريئة وفي «التائهون» كان النص جريئا وأداء الممثلين اكثر جرأة ونقدا.
مفيدة خليل

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115