عرض «مرايا الروح» لوجدي قاقي ضمن ربيع الجسد في المدينة: الرقص مقدس وينفخ الراقص الروح بجسده في كل الحكايات

تكتب الأجساد قصص الأولين وشطحات الصادقين، تكتب الأجساد أفكار الحالمين وتحولها إلى نوتات يشاهدها المتفرج ويستمتع بكل تفاصيلها،

في حضرة الجسد يكون اللقاء، في محراب الرقص وابداعاته وقد عانق جمهور تظاهرة ربيع الجسد تلابيب الحلم والتصوف في عرض «مرايا الروح» فالرقص قبلة الحياة وسحرها، الرقص مقدس ووسيلة لمعرفة قصص الغابرين والاطلاع على الثقافات الانسانية.
«مرايا الروح» عرض يجمع احلام المرسلي ووجدي قاقي من انتاج Col’jam من المغرب و K’danse من فرنسا بدعم من المعهد الفرنسي بتونس. وقدم بمناسبة تظاهرة «ربيع الجسد» احتفاء باليوم العالمي للرقص الذي ينظمه قطب البالي والفنون الكوريغرافية.
أنصت لجسدك ثم افتح ذراعيك وارقص فالرقص حياة
يتوسط الركح فاتحا ذراعيه للسماء،يلبس الأبيض الذي يرتديه الصوفيون أثناء رقصاتهم، كلمات تتغزل بالخالق وتناجيبه تنبعث في كامل القاعة، كلمات الحلاج تكون أولى موسيقى العرض.

«سكوتٌ ثم صمتٌ ثم خَرْسُ وعِلْمٌ ثم وَجْدٌ ثم رَمْـــس
وطينٌ ثم نارٌ ثم نـــورٌ وبردٌ ثم ظلّ ثم شمـــس
وحَزْنٌ ثم سهل ثم قَفْـٌـر ونهر ثم بَحْرٌ ثم يَبْــــس
وسكر ثم صَحْوٌ ثم شوقٌ وقرب ثم وفر ثم أُنْــــس
وقَبْضٌ ثم بسط ثم مَحْوٌ و فرق ثم جمع ثم طَمْـــس
وأَخْذٌ ثم ردّ ثم جـذبٌ و وصف ثم كشف ثم لبــس»

إضاءة بنفسجية تشد انتباه المتفرج لتحمله عنوة إلى فضاء مكاني أرحب تنتفي داخله الحدود بين الإنسان والآخر، تنتفي الحدود بين الروح والجسد، عالم ميزته تلك الحروف المتراقصة التي تكوّن كلمات مثل الحب، الله، الوجد، الشغف، كلمات ذات دلالات روحية وانسانية يستطيع الجسد تحويلها إلى شطحات تنصهر فيها الروح مع العقل، فالرقص عند الصوفيين وسيلتهم الأولى للشفاء من وجع الواقع، وهو مطيتهم للغوص في أعماق الروح ويتماهوا مع جمال الخالق عبر دورانهم المميز لرقصات المولوية.
يفتح الكوريغراف وجدي قاقي يديه كأنه يعانق السماء، لتبدأ عملية الدوران عكس عقارب الساعة، دوران كأنه إعلان عن ثورة ضد الزمن والوقت، فالرقص هو صوت الجسد الصادق والروح العاشقة، تنخفض الموسيقى تدريجيا ليظل الراقص بلباسه الأبيض ودورانه وهو يملأ فراغات الركح برقصه، يتماهى مع الصمت المطبق، يحول ذاك الصمت إلى موسيقى داخلية يرقص عليها الجسد الباحث عن الجمال والسلام الروحي، أثناء الدوران يمكن السؤال، لم يدورون بتلك الطريقة؟ كيف يجدون التماسك؟ أي شطّ سلام يرسون عليه لتكون الملامح بذاك الهدوء والجسد بتلك الطاقة المبهرة؟ أسئلة كثيرة تنتهي بانتهاء دوران الراقص حول نفسه وإعلانه أن عقارب الساعة عادت لدورتها الطبيعية من جديد فأنصتوا لصوت الجسد.
«مرايا الروح» عنوان العرض الكوريغرافي الذي يجمع الرقص الصوفي مع الرقص المعاصر، مزج ممتع بين الخطوات والحركات المتباينة إيقاعيا وشكليا لكننها تتجانس في المعنى والدلالة فكل أنواع الرقص هي صوت الجسد يغني أغاني الحب والجمال، كل أنواع الرقص هي تعبيرة صادقة من الجسد، تعبيرة عن حزن او فرح او حياة، تختلف القراءات والأشكال لكنّ يبقى للجسد صوته وإيقاعاته التي يتحسسها الراقصان ويتقنان نقلها إلى جمهور «مرايا الروح»،فالجسد كلما تحرك ورقص اقترب من الحقيقة وبلغ مداه من الجمال « وآخر ما يَؤول إليه عَبْـٌد إذا بلغ المدَى حظّ و نفس، لأنّ الخلق خدّام الأمانـي و حقّ الحقّ في التحقيق قُـدْس».
الرقص فعل مقدس هو صوت الروح
يواصل الكوريغراف الإنصات لجسده، في رقصة المولية التي يفسرها الشيخ الجزائري الصوفي أحمد التيجاني (توفي في القرن الثالث عشر الهجري) بأنّها تُمثّل تحرّر الإنسان من آدميته إلى «الجِنّيّة»، وبعدها يتحرّر من «الجنية» إلى الروحانية ثمّ الملائكية، يقول الشيخ بلغته العتيقة: أولياء الجنّ دورانهم حول الفعل وسرّ الفعل ونور الفعل، والروحانيون دورانهم حول الاسم وسرّ الاسم ونورالاسم، والملائكة دورانهم حول الصفات وسرّ الصفات ونور الصفات، وأولياء الآدميين دورانهم حول الذات وسر الذات ونور الذات» فالجسد وعاء للروح وحمّال معاني الجمال اللامتناهي.
«مرايا الروح» رحلة كوريغرافية وملحمة انسانية تكتبها الأجساد، جولة بين أنماط مختلفة من الرقص تنقلها أحلام ووجدي قاقي وأحلام المرسلي، هما اثنان، جسدان ذكر وأنثى وثالثهما الماء «وخلقنا من الماء كل شيء حيّ»، الماء مصدر للحياة، هو رمز الانتقال من عالم الحياة إلى عوالم ما بعد الحياة الدنيا، هو طريق للتطهر الروحي وصفاء السريرة كما تقول حركات جسد الراقصة، كلاهما يلبس الأبيض وتقيد حركات اليد والقدمين وكان بالجسد يستعد للرحيل إلى العالم الآخر ومغادرة عالم الحياة.
تلك الرحلة الغامضة إلى البرزخ يكون الماء مطيتها في «مرايا الروح» وموسيقى الناي الحزينة تشبه صلوات الجنائز في الثقافات القديمة، فالعرض يمزج الثقافات والحضارات بالرقص، حين يصل الجسد إلى منتهاه يتحرر من بياضه وقيوده ويصنع ثورته الجديدة من خلال الحركات المتسارعة التي تتماهى مع الإضاءة والحروف المتناثرة على الشاشة الخلفية، تلك الحروف يجمعها الراقصان بجسديهما ويتنقلان بينها ويراقصانها كأطفال يكتشفون عوالم جديدة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115