سلسلة «كان يا ما كانش»: في اجتماع النقد والسخرية

ثلاثتهم يصنعون الضحكة، ثلاث شخصيات تابعها جمهور التلفزة الوطنية في عامين، برغل (عزيز الجبالي) ونعناع (جهاد الشارني) ومهراس (سيف عمران)

ثلاثة اصدقاء جمعتهم الصداقة ثم السلطة والمغامرات لاسترداد الحكم، مغامراتهم تجمع الكوميدي بالتراجيدي، مغامرات بين الممالك انطلاقا من مملكة «ساطور» الى مملكة «تتريس» ثم «تنبيرستان» و«روما» و«العرب» جولة زادتها رسائل سياسية مشفرة ونقد للواقع التونسي مع الكثير من المتعة والخيال، ثلاثتهم نجوم سلسلة «كان ياماكانش».
السلسة فكرة اصلية لحاتم بلحاج واخراج عبد الحميد بوشناق، سلسلة كوميدية جمعت اكبر عدد من الممثلين التونسيين كان جميعهم نجوم الحلقات الخمس عشرة، «كان ياماكانش» قدمت الضحكة والنقد لجمهور الدراما الرمضانية.
بين الواقع والخيال خيط رفيع للنقد وطرح السؤال
«جميع شخصيات وأحداث السلسلة من وحي الخيال ولا تمت للواقع بصلة» هي الجملة الاولى التي ينطلق بها جنيريك «كان يا ماكانش» الذي يحمل جمهوره في رحلة يمتزج فيها الكثير من الخيال مع واقعية الاحداث التي يعرفها المتفرج التونسي فيقدمون له الضحكة المسكونة بالكثير من النقد.
تدور احداث السلسلة في «مملكة ساطور» (بمتابعة الاحداث يمكن الاجماع انها تونس، بساستها وشعبها وأوضاعها الاقتصادية والتعليمية) التي يتولى ادارتها برغل (عزيز الجبالي) في نهاية الجزء الاول يتسلم «برغل» الحكم بجملة «انا خادمكم ولست ملككم» لكن بعد عشرة اعوام يتغير الخطاب ويوغل الملك في الاستهتار بالمملكة والحكم «اخبرنا انه سيقوم بالإصلاحات، وبعد عشرة اعوام لم يشيد عمودا جديدا واحد، وارتفعت الأسعار» كما يقول الناس في اول حلقة من الجزء الثاني، فالملك المستهتر دفع بشعبه الى التفقير والجوع وارتفاع البطالة مقابل مجونه الى ان افلست المملكة «لا وجود لفلس واحد، اعلنا افلاسنا منذ عام وصندوق النقد الدولي رفض إقراضنا» كما يقول وزير مالية مملكة «ساطور».
يحدث انقلاب تقوده الملكة «أليسار» (سوسن معالج) ومنذ اول حلقة وفي المشهد الاول تقول للكاميرا (اليسار مؤسسة قرطاج وأول ملكة لها، لكن مسلسلنا مايحكيش عليها)، منذ اول الحلقات يضع بوشناق متابعيه امام صراعات ثنائية «انقلاب، ام ثورة» (كيف يحدث انقلاب دون إيقافات قد يكون ذلك لوجود ثغرة في القانون، هي الجملة التي رددها الكثير من التونسيين بعد 25جويلية حين طبّق الفصل80».
وقد قرر «برغل» ان يستعيد عرشه وملكه ويعود الى شعبه وتبدأ المغامرة رفقة صديقيه وزيره الاول نعناع (جهاد الشارني) ووزير المالية مهراس (سيف عمران) رحلة استرجاع الملك مسكونة بالمغامرات والتجوال بين الممالك، مسكونة بالنقد والضحك، فالسلسلة هزلية، ناقدة، هي حلمة جميلة جمعت حاتم بلحاج صاحب الفكرة الاصلية مع عبد الحميد بوشناق في بحثهما عن كوميديا تونسية ممتعة.
بين الواقع والخيال خيط رفيع جدا اتقن حاتم بلحاج صاحب الفكرة التقاطه ليصنع منه عمله الابداعي، بين مملكة ساطور وتونس تشابه كبير، لعشرة اعوام سادها من يبحث عن مصالحه الخاصة على حساب الدولة، عاش البلدان تناحر الاحزاب، وعاشا سطوة إعلاميي «البوز» وبحثهم عن عدد المشاهدات على حساب مصلحة الدولة وتقديم الحقيقية كما فعلت شخصية «ميديا»، بين خيال تدور احداثه في مملكة يبحث فيها المربي عن (اكتناز الاموال ودروس التدارك والتقصير في مهامه) وواقع يعاني فيه قطاع التعليم من الكثير من الهنات في تماه لا في تشابه فقط، بين مملكة متخيلة يعاني شعبها من غلاء الاسعار (الفلفل بـ3 بياسات ونصف) ودولة يعجز مواطنوها عن اقتناء حاجياتهم الغذائية (الفلفل بـ5دينانير) تطابق كبير، بين الخيال والواقع تلك الكوة الصغيرة منها اطّل بلحاج وبوشناق ومزجا الخيالي والواقعي لتقديم صورة اخرى عن تونس، تونس التي تحتاج مسؤولين صادقين ينجحون بثقة الشعب ويخدمون مصلحة الشعب والوطن، فكانت «كان يا ماكانش» سلسلة كوميدية ساخرة مغلفة بالنقد والسخرية السوداء من شعب لا يدافع عن حقوقه ويستسلم لقرارات المسؤولين.
اجتمع عمالقة التمثيل لضمان الفرجة
«كان يا ماكانش» كتاب اصفر اللون يبدو وكأنه أثري، تفتحه شخصية «ميما» (فاطمة بن سعيدان) وتحكي الخرافة ثم تمرر المشاهد، شخصية ميما في السلسلة هي العمود الفقري للعمل، «ميما» ليست مجرد قارئة للحكاية بأسلوبها المميز بل هي مساهمة في صناعة الاحداث أيضا، «ميما» ام الملك ساطور وجدة الملك برغل هي التي انقذته من الموت في جزء الأول، هي من تقدم الافكار البديلة كلما ضاق الخناق السياسي، ميما هي من تنقذ المملكة من «الساحرة» لأنها حورية ولجناحيها قدرة خارقة، ميما تمثل رمز الحكمة في السلسلة، حكمة من خبر السنين وعلمته التجارب الكثير من الحنكة، شخصية مميزة اتقنتها جيدا فاطمة بن سعيدان بأسلوبها المغري بمزيد الفرجة، فاطمة بن سعيدان الممثلة المتلونة القادرة على تقمص اصعب الشخصيات، لها قدرة على تغيير نبرة الصوت وملامح الوجه تماهيا مع العمل، ميما في «كان يا ماكانش» هي قبلة الباحثين عن الحقيقة، وفاطمة بن سعيدان قبلة كل مخرج يبحث عن ممثلة مميزة كلما جسدت شخصية اقنعت وكانت صادقة.
تقابل شخصية ميما شخصية اخرى ساهمت في تطور الاحداث وتغيير مجراها، شخصية اكثر تعقيدا من ميما «شو» الذي اصبح سيد مملكة «تنبيرستان» في الجزء الثاني، «شو» اداها الممثل القدير البحري الرحالي يجسد شخصية «مايعجبوش العجب»، «نبار» هوايته الاساسية تشويه كل ما هو جميل، الحطّ من قيمة الاخر وانجازاته ايّا كانت عظيمة، التقليل من ابداعات الاخر وأفكاره هو عينة من التونسيين الموجودين في مجتمعنا، اولئك الرافضين للتجديد او الاختلاف، محدودي الرؤية والباحثين فقط عن تقزيم الآخر، شخصية مضحكة امسك البحري الرحالي بالياتها جيدا فكان مميزا في الجزء الاول ومقنعا اكثر في الجزء الثاني، «شو» بشعر احمر ووشم على الجبين وبجملته الشهيرة «شو هاك...اووه» هي الجملة التي ترددها الشخصية كلما جابهت موقفا ما، «شو» شخصية مميزة ابدع البحري الرحالي في تقديمها، وفي الحلقة الاخيرة ينبش بوشناق في ذاكرة المشاهد ليحمله الى عوالم «النوبة» في المشهد الذي جمع البحري الرحالي واميرة الشبلي، البحري الرحالي في السلسلة اقنع متابعي العمل وكان كعادته صادقا في ادائه.
«كان ياماكانش» سلسلة جمع فيها عبد الحميد بوشناق بين ثنائي من اجمل الثنائيات الكوميدية، ترك لهما مساحة للتعبير شخصيتي «ساطور» وصديقه «كلتوس»، المنجي العوني ونور الدين بن عياد حضرا في اكثر من مشهد ثنائي، استطاعا ارجاع المتفرج الى سنوات الثمانينات وتميزهما في الكوميديا، وكلما جمعهما مشهد ثنائي إلا وأشاروا الى نجوم الكوميديا في تلك الفترة فيقدمان اغنية لإحدى برامج الراحل نجيب الخطاب، يستحضران من خلال الشخصيات مواقف سفيان الشعري ونصر الدين بن مختار، حضورهما في المشاهد الثنائية هو اعتراف بقيمتهما كنجمي كوميديا كانا ولازالا لهما القدرة ليقنعا متابعي الكوميديا والباحثين عن الضحكة الجميلة بعيدا عن السخرية او الاستهزاء من الاخر.
«كان ياماكانش» سلسلة تونسية الروح والتقديم، عمل يوغل في الخيال وينتصر للواقعية، سلسلة تقدم الضحكة والكثير من الاسئلة عن واقع البلاد والعباد في الوقت ذاته، كاتبها حاتم بلحاج مجنون بالاختلاف وأخرجها عبد الحميد بوشناق مخرج يبحث عن الجديد والمختلف في تجاربه.
سلسلة جمعت عددا كبيرا من الممثلين التونسيين لا يمكن اسناد البطولة لممثل واحد فكل الممثلين تميزوا في شخصياتهم، يعيد المتفرج لشخصية «زاك» في نجوم الليل فيضع معز القديري في شخصية «الشنقال» الذئب ابن الساحرة، يحترم البنية الجسدية للشاذلي العرفاوي فيجعله سيدا لمملكة «المرامدية»، ويحترم قدرة فتحي الهداوي على التلون ليكون «تتريس» فرعون مصر وينتصر لطلاقة مهذب الرميلي وقدرته على الخطابة ليكون «الشنفخة» سيد العرب، سلسلة جمعت نجوم امس مثل فاطمة بن سعيدان والبحري الرحالي وجميلة الشيحي وصلاح مصدق وفتحي الهداوي وناجية الورغي مع نجوم اليوم عزيز الجبالي وجهاد الشارني وهالة عياد ورباب السرايري في عمل واحد وثنائيات عديدة تكشف عن ان لهذا البلد طاقات تمثلية مبهرة متى كانت خلفها ادارة ممثل ناجحة لتكون «يا كان يا ما كانش».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115