العنصرية في تونس من خلال مسلسل «الحرقة»: مجرّمة قانونيا لكنها تمارس مجتمعيا

هل أنك تتألم حين يمارس عليك العنف النفسي والمعنوي؟ كيف بمن يعيشون بهذا الالم يوميا؟ اتشعر بالإحباط والرغبة في الانزواء حين ينعتك احدهم بأبشع النعوت فقط لاختلافك عنه؟

كيف يشعر ذاك الذي يعيش يومه بعبارات ترهق النفس والفكر فقط لاختلاف لون بشرته؟ اتزعجك بعض الكلمات القاسية في الشارع، ربما قليلا لكن هناك بيننا بشر يعانون يوميا من كلمات اشد قسوة وظلما بسبب لون لم يختاروه ووضع اجتماعي موجع لم يسعوا إليه هكذا يقول مشهد «كايلا» (اميمة البحري) وهي تنظر الى رفاق اللون والبلدان وهم يتألمون في صمت بسبب وضع اجتماعي ونفسي مرهق يعيشونه في تونس.
بمشاهد موجعة اختار لسعد الوسلاتي مخرج مسلسل «الحرقة» ورفيقه عماد الدين حكيم كاتب السيناريو الحديث عن موضوع «العنصرية» في تونس.

العنصرية موجودة في الممارسة اليومية وتكشف الدراما عن بشاعتها
تؤثر الدراما على متابعيها وترسخ الصور والمشاهد والنصوص ايضا في ذاكرة المتلقي، الدراما الرمضانية بمواضيعها المختلفة تصبح محور النقاش اليومي لمتابعي الاعمال على وسائل التواصل الاجتماعي او الاجتماعات العائلية و»لمة الاصدقاء» كما ان للصورة تأثيرها القوي على ذاكرة المتلقي، بعض

المشاهد تزعزع قناعات الانسان واخرى تدفعه ليراجع ذاته، مواضيع تطرح بجرأة احيانا من خلال نص كلماته قاسية وأداء ممثل يبهر المتلقي فينجذب اكثر للمسلسل ومنه يواصل البحث في الموضوع المطروح.

في «الحرقة» اثار لسعد الوسلاتي منذ الجزء الاولى موضوع العنصرية بشكل عام، ليغوص اكثر في هذا الموضوع في الجزء الثاني، اختار شخصيات مختلفة تجتمع اولا في شاحنة تهريب (يشرف عليها من يتاجرون باحلام البشر واموالهم ثم يرمونهم على الطرق)، في المشاهد الاولى يقايض صاحب الشاحنة مع حراس الطريق، يمنعونه من المواصلة فيقدم لهم «انثى» هدية ليواصل طريقه، يصلون الى تونس لتتابع كاميرا المخرج شخصية «كايلا» في تونس وتتنقل مع حركات الشخصية وتحركاتها العنصرية الخفية التي يمارسها بعض التونسيين على اصحاب البشرة السوداء المهاجرين من افريقيا جنوب الصحراء.
ممارسة العنصرية مؤلمة من خلال الكلمات «ايّ رائحة كريهة هذه، لم يصعدون معنا في النقل، لم لا يعودون الى بلدانهم» كما تقول احداهنّ عن كايلا في النقل الجماعي ثم تستخدم عطرها بتعلة ابعاد الرائحة الكريهة، المشهد ليس من وحي الخيال فعربات «الميترو» يركبها كثيرات ممن يستعملن العطر او يضعن مناديل وبعد ازمة الكوفيد يلبسن الكمامات فقط حين يجلس حذوهم احد الافارقة، حتى اصبح المشهد طبيعيا يقبله ركاب الميترو دون انزعاج هنا ترسخت ممارسة سلبية تكررت كثيرا لتصبح طبيعية ومقبولة.

العنصرية في تونس من المواضيع التي يخوض في شانها مسلسل «الحرقة» ربما المشاهد الصادمة والكلمات المؤذية التي تتعرض لها «كايلا» و»دجالا» و»سارة» و»كادي» (التي تعرضت للضرب والاهانة فقط لتحطيمها طقم صحون من صاحبة البيت) تصدم متلقي العمل ومتابعيه لينتبهوا اكثر الى ممارستهم تجاه اصحاب البشرة السوداء، ربما تكون مشاهد المسلسل فضاء انساني لترسيخ ثقافة حقوق الانسان والتعريف اكثر بالقانون الذي يرفض التمييز العنصري فتونس اول دولة في منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا ليست قانونا يعاقب التمييز العنصري ويسمح لضحايا العنصرية بالتماس الانصاف عن الاساءة اللفظية او الافعال العنصرية الجسدية ضدهم.

يتابع الوسلاتي شخصياته الافريقية في المسلسل، يتقن جيدا الانصات الى كل العبارات المؤذية التي يواجهونها في مسارهم في تونس، فتونس اصعب من ايطاليا «هوني اصعب، يجب ان تتعلمي لغتهم لتفهمي حين يسبوننا» كما تقول «سارة» لـ»كايلا» من خلال شخصيات عماد الدين حكيم وبنظرة سريعة على الالفاظ المستعملة في لهجتنا المحلية نجد الكثير من العبارات العنصرية «وصيف» و»عبد» و»ازرق» كلمات نستعملها في الخطاب اليومي دون وعي انها عنصرية، هذه الالفاظ يرفضها قانون التمييز العنصري، القانون الذي دخل حيز التنفيذ منذ اربعة اعوام هو انتصار قانوني لتونس لكن هذا الانتصار يحتاج الى الوعي المجتمعي، يحتاج الى مزيد الدعاية الاعلامية، يحتاج اكثر الى ترسيخ ثقافة قبول الاخر في البرامج التعليمية والكتب المدرسية.

قانون تجريم العنصرية يحتاج المزيد من الدعاية لتصل الرسالة
العنصرية في تونس من المواضيع المجرمة قانونيا لكن يمارسه البعض لجهل او سوء نية، ازدراء حاملي البشرة السوداء ومحاولة تجنبّ الجلوس حذوهم في عربات «الميترو» او «الحافلة» من الممارسات التونسية، هنا نستحضر حادثة ربما تبدو بسيطة لكنها تبطن الكثير من العنصرية، امرأة افريقية جالسة في كرسي في «الميترو» تحمل هاتفها، تحادث من تقابلها، تصعد تونسية شابة، تضربها على كتفها وتطلب منها النهوض لتجلس مكانها لأنها «تاعبة»، استجابت الأولى لتجلس الثانية دون قول «شكرا»، وحين سألتها زميلتها اجابتها بثقة اصحاب الارض «يمشو يروحوا لبلادهم، ناقصينهم كان يقعدولنا في الكراسي في النقل»، جملة بسيطة ربما لكنها تكشف ان القانون وحده لا يكفي للحماية من جرائم التمييز العنصري، القانون يحتاج العديد من الدعائم والدراما احداها وفي «الحرقة» كشف الوسلاتي قبح العنصرية وبشاعة من يمارسها والتأثيرات النفسية الكثيرة التي يتعرض لها المهاجرين الافارقة في هذا البلد المدافع عن حقوق الانسان.

فالدراما سلاح جيد متى عرف صاحبه استخدامه، تقدر الصورة على التأثير ومنها التغيير، وبالعودة الى النص القانوني يعتبر القانون العضوي رقم 50-2018 الأول من نوعه في شمال إفريقيا والعالم العربي، حيث تنتشر العنصرية ضد الأشخاص ذوي البشرة السوداء بشكل خاص تونس، سواء كانوا تونسيين اوأجانب، و القانون حقق بموجبه مواطن تونسي انتصار تاريخي بتاريخ 14اكتوبر 2020 وتخلص بموجبه من لقب «عتيق» الذي رافقه وعائلته منذ مائتي عام، «عتيق» اللقب العنصري تخلص منه السيد «حمد» وانتصر له القانون التونسي في اول قضية ترفض الى القضاء التونسي ضد لقب عنصري.
التمييز العنصري من المواضيع التي يعالجها مسلسل الحرقة، موضوع حساس جرّمه القانون ولازالت اثاره موجودة لدى المواطنين، لكن التمييز لا يوجه فقط للأفارقة المهاجرين بل يعاني منه التونسيين من حاملي البشرة السوداء على سبيل الذكر نستحضر الهرسلة والعنف اللفظي الذي تعرضت له الكاتبة التونسية «فتحية دبش» صاحبة رواية ميلانين، موضوع كتبت فيه كثيرا فتحية دبش المنتصرة في رواياتها للإنسانية، كتب عن العنصرية عثمان الاطرش في «دمع اسود» واختار شخصية «سعدية» لتلخص هذا الوجع، موضوع اشار اليه نجيب بلقاضي في فيلمه «قربان» و تحدث عنه حافظ خليفة في مسرحية «كونتينر».

كما ظهرت العديد من المنظمات والجمعيات المدافعة عن حق الاختلاف والرافضة للتميز مثل جمعية «منامة» و «مجموعة صوت النساء التونسيات السوداوات» وقد ظهر حراك النساء السودوات في تونس من الهامش طارحا مجموعة جديدة من التعريفات للمرأة السوداء والاعتراف بها كمواطنة، أو رفيقة، أو صديقه وفاعلة على المستوى الوطني وليست سيدة قبيحة أو وصيفة أو جسد متعة أو أداة لطرد العين والأرواح الشريرة ، كما يطرح الحراك مسألة الهوية المتعدّدة والانتماء الإفريقي، فالعنصرية مجرمة قانونيا ومرفوضة انسانيا واستطاع الوسلاتي مزيد الكشف عن قبح ممارسة التمييز العنصري منتصرا فقط للإنسان.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115