كما في المعجم الكبير للطبراني، «حلو المنطق، فصْلٌ لا هذْر ولا نزْر، كأن منطقه خرزات نظمٍ يتحدَّرْن»، ومعنى قولها «لا هذْر ولا نزْر» أي: لا بالكثير ولا بالقليل، بل هو فصلٌ بَيِّن، ينظم المعاني الواسعة في ألفاظ يسيرة، وهو مع ذلك لا يُلغزُ ولا يُعمِّي، بل يفهم كلامه الفصحاء والبسطاء، وهو القائل عن نفسه: «فُضِّلْتُ على الأنبياء بست: وأعطيت جوامع الكلم» رواه مسلم.
• ومن جوامع كلمه التي نتناولها في هذا المقام:
ما ورد في صحيح مسلم عن عمر ابن الخطاب: في حديث جبريل الطويل وفيه: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، وفي رواية في مسلم أيضا: «أن تخشى الله كأنك تراه، فإنك إن لا تكن تراه فإنه يراك»، وفي رواية في مسند أحمد: «الإحسان أن تعمل لله كأنك تراه، فإنك إن لم تره فإنه يراك».
وكل من تعرض لهذا الحديث من الشراح أكد على أنه من عيون كلامه، وجامع بيانه، فقد جمع فيه كل معاني الخشية والمراقبة، وأحوال المسلم الظاهرة والباطنة، ومقام الطائع بين يدي ربه متيقنا من نظر الله إليه، ومشاهدا مقامه بين يديه، وهذا جماع الإحسان، وسلم الإتقان، ومن ضيع هذا المقام فقد أضاع أعلى مقام العبودية، وأساس العلاقة بينه وبين خالقه.
قال النووي: وهذا القدر من الحديث أصل عظيم من أصول الدين وقاعدة مهمة من قواعد المسلمين، وهو عمدة الصديقين، وبغية السالكين، وكنز العارفين، ودأب الصالحين، وهو من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم؛ لأنا لو قدرنا أن أحدنا قام في عبادة وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى لم يترك شيئا مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلا أتى به.
• قال في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح:
وهذا من جوامع الكلم، فإن العبد إن قام بين يدي مولاه لم يترك شيئا مما قدر عليه من إحسان العمل، ولا يلتفت إلى ما سواه، وهذا المعنى موجود في عبادة العبد مع عدم رؤيته، فينبغي أن يعمل بمقتضاه إذ لا يخفى أن من يرى من يعمل له العمل يعمل له أحسن ما يمكن عمله.
قال القاضي عياض رحمه الله: وهذا الحديث قد اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان وأعمال الجوارح، وإخلاص السرائر، والتحفظ من آفات الأعمال، حتى إن علوم الشريعة كلها راجعة إليه، ومتشعبة منه، وعلى هذا الحديث وأقسامه الثلاثة ألَّفْنا كتابنا الذي سميناه بالمقاصد الحسان فيما يلزم الإنسان إذ لا يشذ شيء من الواجبات والسنن والرغائب والمحظورات والمكروهات عن أقسامه الثلاثة والله أعلم. أ.هـ
يتبع