اثره الإبداعي، فالفنان لا يموت تظل أعماله شاهدة في التاريخ، وفي مدينة الثقافة احتفي بأربعينية الفنان حسين مصدق نقيب الفنانين التشكيليين الذي وافته المنية يوم 11فيفري 2022، غادر جسد حسين وبقيت اعماله ولوحاته وأشعاره وموسيقاه المفضلة شاهدة على خلوده.
ليست للفنان حدود للخيال ولا الإبداع، ان تتجول في رحاب اعمال حسين مصدق وتستحضر كلماته وقصائده التي يبدع في كتابتها تعليقا على كل عمل تشكيلي فالأمر ممتع ومختلف لكن التجوال في غيابه يكون اشد وجعا وأكثر سؤالا، حسين مصدق وضعت بعض ابداعاته بداية من البهو الخارجي لمدينة الثقافة رسوماته الصغيرة الحجم كانت الدليل الاول لزوار المعرض والباحثين عن احتفالية فنية جد مختلفة.
حسين مصدق الرسام الذي افنى السنوات في الرسم والتعبير والتجريب والتجريد، خبر مدارس الفن التشكيلي وصنع لنفسه بصمته الابداعية الخاصة، مصدق صنع عوالمه الانسانية والتشكيلية وجمع الرسم مع الشعر فرسم الكلمات وحوّل الوانه الى قصائد، حسين مصدق فنان ابن بيئته، ملتزم بقضايا وطنه والقضايا العالمية، الرسم لديه رسالة هو صوته وصوت كل الحالمين، لم يكن يرسم لمجرد المتعة بل يرسم لينقل اوجاع الوطن وأثقال المواطنين، انه ملتزم بالفن وينحاز الى الطبقات المهمشة، ريشته ساحة ليصرخ ضد الديكتاتورية وكل النظم الظالمة، فالفن ومنذ بداياته كان وسيلته لكتابة ثورته المختلفة فثار على السائد في الرسم التقليدي وجعل لنفسه بصمته، هكذا كان حسين مصدق كما تقول اعماله وألوانه الحارة المنتشرة في رحاب المدينة.
في البهو الفاصل بين المتحف وبيت الرواية اجتمع الفنانون، احتفلوا بألوان الرسم «حسين كان وين يمشي يرسم، هوسه بالرسم لا نظير له، وبالألوان نكرّمه لانه يحبها ويتقن مزجها» كما قال صديقه ورفيق الرسم والموسيقى عمر بن ابراهيم، اصبح البهو ورشة مفتوحة للرسم وممارسة فنّ احبه مصدق وقدم في سبيله سنوات كثيرة من العمل والتجديد والتلوين، فحسين مصدق الذي خبر الرسم صغيرا وأحب العمارة من مدينته غمراسن سكنه هذا الفن ومارسه طفلا فشابا ليصبح رساما له بصمته الخاصة في اعماله التشكيلية وأصبح لوجوه حسين مصدق حضورها في المعارض والمتاحف ومعروفة لمتابعي المشهد التشكيلي في تونس.
اجتمعوا حول الالوان والفرشاة ليرسموا صديقهم ويرسموا ما يسكنهم من مشاعر تجاه فنان غادر تاركا الكثير من الأعمال اجتمعوا على الالوان والموسيقى، موسيقاه التي كان يسمعها، الوانه المفضلة في الرسم، شخوصه وأفكاره جميعها جزء من الاحتفالية التكريمية لفنان مشاكس ومدافع شرس عن حقوق الفنانين، حسين مصدق جذوة من نار ربما انطفأت بفعل الموت لكن افكاره وطريقته في الدفاع عن فن احبه وفنانين مارس معهم الحلم والجمال لا يمكن ان تنطفئ ليظل اسمه جزء من الفعل الابداعي في الفن التشكيلي.
في المدينة وقع الالتجاء الى الفن للتعبير عن لوعة الفراق وأحلام لن تنتهي بفعل الموت، انتصروا الى الالوان حاملين الكثير من الرسائل، بعضهم رسم البورتريه وحاول آخرون تكريمه برسم وجوهه واختار فريق ثالث مشاكسة الالوان وتركها ترقص بحرية، فالفن كان ملجأ مصدق الاجمل «نحن لاجئون داخل معتقلات الفن حينما تعجز اللغة وتحبطنا مفرداتها في اصدار صيحات الفزع المنمقة (اننا نحيا / اننا نموت)،الفن هو ذاك الكائن الهلامي الوحيد الذي ينقذنا من الكره والعنف والاحباط حينما يزرع نبته الاخضر وألوان ازهاره في حدائق الامل والحب والسلام ويضرجنا بدماء جديدة متدفقة، لنرى الجمال الكامن فينا وفي الآخر» وبالالوان دخل الفنانين المشاركين معاقل الجمال وانتصروا الى فكرة الحلم الذي لا يموت.
غادر حسين مصدق عالمنا وترك خلفه الكثير من الاعمال التشكيلية بمدارس فنية مختلفة، ترك اعمال تميزت بكبر حجمها بعضها على ملك ادارة الفنون التشكيلية وأخرى لازالت لصاحبها، اعماله التي زينت المطاعم والفضاءات الثقافية جزء من روحه، وفي الطابق الثالث من المتحف عرضت بعض اعمال حسين مصدق للجمهور، وجوهه التي تميز بها كانت تنضج شوقا وإرادة وسؤالا لجمهور اقبل ليعيد اكتشاف اعمال فنان عرفه حيّا وربما انصت كثيرا لتحليله لإعماله، في المتحف عرضت وجوه حسين مصدق التي تميز برسمها، هي اوزار المواطن وهموم الوطن، هي صورة عن الم الواقع ومعاناة المرضى لانعدام
الدواء، وجوهه حمّالة معاني ومباني شكّلها طويلة بعيون كبيرة لتلتقط اكثر وجع الانسان ويتحول الى عمل ابداعي.
في فضاء المتحف عرض جزء من الوجوه التي كتب فيها وليد الزريبي»وجوه» حسين مصدّق ليست «وجوه» محمد شكري، وقد تكون كذلك، في تآلفها وتنافرها، في تطابقها وتقاطعها، في وجومها وانبهارها، في انكسارها وهزيمتها، هي «الوجوه» في كل حالاتها الإنسانية الشتّى والقصوى،. هروب محمد شكري عبر «الوجوه» إلى زمن اخترقه، هروب إلى أحلام عاشها أو لم يعشها.
ولكن حين اختار حسين مصدّق الذهاب إلى تلك «الوجوه» عن طواعية أو دونها، فقد اختار الذهاب إلى حتفه، إلى النهايات، حيث لا شيء مهمّ، حيث كل شيء مهمّ. إننا لا نختار أحلامنا على رأي أحد «وجوه» محمد شكري، ولكن أحلامنا هي قدرنا، هي ما عشناه وما سنعيشه. لها صلة بوعينا ولاوعينا، كثيرا منها أنارت لنا جزءا من حياتنا المظلم.
««وجوه» حسين مصدّق السّاكتة من القبح (قبح العالم) والساقطة في الجمال (جمال العالم) تملك مفاتيح حياتنا السرية.
غادر حسين مصدق وترك لمحبيه الوان ووجوه وموسيقى، حسين مصدق الفنان الذي كان مقبلا على الحياة احتفى به اصدقائه في اربعينيته بالموسيقى وغنى لروحه ياسر الجرادي «حسين كان يحب الموسيقى، لأنها جزء من الروح، وساغني لحسين اغانيه التي احبها» هكذا تحدث الفنان الملتزم بالانسان ياسر الجرادي قبل ان يعانق معشوقته القيثارة ويغني «نشيد الجبناء» و»حياك» و»تشيغيفارا» وعديد المعزوفات التي تشاركها مع فقيد الساحة الفنية.
احتفت ادارة الفنون التشكيلية والمتحف الوطني للفن الحديث والمعاصر وثلة من الفنانين التشكيليين بفقيدهم حسين مصدق فغنوا ورقصوا وووزعوا الالوان وانتصروا لذكرى رفيقهم وصديقهم الذي سكنه وجع الاخرين وتقمص احلامهم ليعيش حالة تامل قبل ان يحولها الى لوحة فنية تضجّ بالالوان الحارة والحركات الصاخبة، في المدينة احتفوا بذكرى رحيل مصدق مؤكدين ان الفنان حيّ لا يموت.