مسرحية «آخر مرة» إخراج وفاء الطبوبي ضمن المهرجان المتوسطي للمسرح: منذ آدم إلى حدّ اليوم.. صراعات دموية وعنف بين حواء ونظيرها

حين نزل ادم من الجنة نزلت معه حواؤه ليشكلا ذكر وأنثى وتبدأ البشرية والتناسل وتكثر الأعراق والأطياف والتجمعات، لكن ماذا لو انقرض جميع

من هم على الأرض وبقيت أنثى وذكر وحيدين؟ كيف سيكون المشهد؟، في هذا الإطار يتنزل نص مسرحية «آخر مرة» لوفاء الطبوبي التي جعلت أنثى ذكر يتواجهان ويتصارعان ويتصالحان لوحدهما على البسيطة واختارت للعبتها أخا وأخته ليكونا آخر اثنين يصنعان الصراع ويقدمانه.
«اخر مرة» مسرحية تراجيدية ناقدة، عمل يكشف العنف النفسي والجسدي الذي تتعرض له المراة، مسرحية تميزت بصدق ممثليها وبراعة مخرجتها في اختيار متماتها الركحية، نص كتب بوجع وقدّم بالكثير من الابداع من طرف مريم بن حميدة واسامة كشكار، والمسرحية من انتاج شركة الاسطورة بدعم من الريو ووزارة الشؤون الثقافية وهي حاصلة على جائزة العمل المتكامل في الدورة الاخيرة لايام قرطاج المسرحية.

المسرح فعل نقدي وممارسة جريئة
ابيض فاسود، صراع فحب، الم فأمل، تعاسة تليها السعادة، موت وحياة هي المتناقضات التي قامت عليها مسرحية آخر مرة، حوار ولعب ثنائي بين شخصين اثنين ذكر وأنثى، ثلاث وضعيات درامية وثلاثة مشاهد تلخص علاقة الذكر بالأنثى وتضعها على طاولة التشريح وتطرح أسئلة مثل لمً الخلاف والتناحر ونستطيع العيش في كنف الحبّ؟ لم الخوف ويمكننا زراعة الطمانينة، لما كل الهواجس بالقتل ونحن بإمكاننا نشر المحبة، في الوضعيات الثلاثة المقدمة كان يمكن لكلمة «احبك» ان تغير مصير الشخصيات وتنقضها من الموت او الذبول الى الحياة والإزهار، على وتر كلمة «احبك» تبني وفاء الطبوبي مسرحيتها.
اعتمدت المخرجة وكاتبة النص على ركح خال من الديكور باستثناء طاولة صغيرة وكرسيين اثنين، الكرسيان يمثلان الأنثى والذكر، يرمزان إلى الاخر فردا ومجموعة، طريقة وضع الكراسي تحيل إمّا إلى القرب او البعد، تختلف حسب الرسالة الموجهة، الكرسيين عادة يوضعان في أروقة الضوئية، في عملها كان للإضاءة حضورها المؤثر والقوي فهي ليست وسيلة أو مجرد متممات ركحية بل شخصيات متنافرة ومختلفة، طريقة توزيع الإضاءة على الركح هي مقياس المتفرج ليعرف نوعية العلاقة المطروحة ويكتشف أسرار كل شخصية من خلال حركة الضوء، من خلال الاضاءة وطريقة توزيعها على الركح تحملك الطبوبي عنوة لمزيد التركيز وكأنها تختار أي زاوية يمكن ان تشاهد منها العمل، توجه الذاكرة البصرية والانفعالية لزوايا دقيقة وكأنك في متاهة وحدها العارفة بثناياها وطريق الخروج.

«اخر مرة» هو عنوان المسرحية، عنوان تقريري كان الشخصيات تؤكد انها اخر مرة تكذب، اخر مرة تتاخر، اخر مرة تضع نفسها في دائرة الصراع، كم مرة قلت «اخر مرة» انجز هذا العمل او «آخر مرة» أقابل ذاك الشخص او «آخر مرة» أنصت لهذه الأغنية او «آخر مرة» ادخل نقاشات ترهق النفس ثم تناسيت الكلمة وعدت من جديد الى نفس الممارسات، هذه الدائرة الشبيهة بالهوّة تسلب الإنسان قراره واختياراته وتجعله حبيس الآني منها شكّلت الطبوبي ملامح شخصياتها ورسائل مسرحيتها فكان النص مرعبا موغلا في الوجع صاحبه أداء ممثلين أكثر صدقا وحرفية وإضاءة مستفزة، تستفز الروح والعقل لتطرح كمّ الأسئلة داخلك وهذا الشكّ هو طريقها لتقدم نص مسرحي يرشح وجعا وإبداعا.

في تشكيل اللون مع الحركة: دفاع عن الانسانية وانتصار للانثى
«آخر مرة» مسرحية تبدو وكأنها لوحة تشكيلية تجمع السريالي والواقعي، مدارس لونية كلاسيكية لجات اليها المخرجة، أساسها تدرّجات الأصفر في الضوء والأحمر والأسود وقليل من الأبيض في لباس الشخصيات، الألوان الكلاسيكية واضحة الرمزية فالمخرجة تجمع الأمل والسواد والدم في لباس واحد وكأنها تقول أننا نعيش على وقع الجريمة منذ قتل قابيل أخاه هابيل وفي نهاية المسرحية ستقتل الأخت أخيها وسط التماهي مع اللعبة، فالإنسان منذ الأزل يعيش على ثنائيتي القتل والحياة.
«اخر مرة» مسرحية توغل في تفكيك وتشريح العلاقات المجتمعية والعلاقة بين الرجل والمراة اساسا، تقوم على ثلاث مشاهد مختلفة، الاول يجمع المدير بالسكريتيرة والثاني الام بابنها والثالثة تجمع الزوج وزوجته، مشاهد مختلفة من حيث طريقة التقديم والنص المنطوق لكنها في النهاية تكشف كمية العنف النفسي والجسدي والاقتصادي الذي تتعرض له المرأة عادة، فالمراة محور الخلق ومحور الأحداث وفي الوقت ذاته الأكثر عرضة للخطر والتعنيف من المحيط القريب والخارجي، تضع شخصياتها تواجه ذواتها وتواجه عنف الآخر، لكل شخصية أسلحتها المنطوقة من خلال نص منظم الكلمات والمعاني تدافع به الشخصية عن ذاتها واختياراتها ووجودها.

في المشهد الأول: يجد المتلقي نفسه أمام رجل متحرش وامراة تجاهد لإتمام العمل واليوم، الكثير من التفاصيل تبنى عليها العلاقات العملية المتشعبة «مدام قررت نرقيك، والترقية تستحق التضحيات» ليبدأ هذا الصراع اللامتناهي بين شبقية المدير وخوف المراة، صراع على فرض الذات واثبات «الانا» وصدقها أمام الاخر، من هذا الحوار تتطرق المرأة الى معاناة كل الامهات يوميا بين البيت والعمل والاطفال، تقطّع ذهني وجسدي تحاول إخفاءه بقلم حمرة وملابس جميلة، لكن هذه الحمرة تثير غرائز احدهم فتتحول السكريتيرة لديه إلى قطعة حلوى لذيذة يريد فقط التهامها ثم تطويعها بترقية ومنح «مدام انت كواترو، قالولي يلزمك سكريتيرة مرا مزيانة»، هنا تضع الطبوبي شخصيتها امام أطماع المجتمع الذكوري تسلحها بقوة جبارة لتدافع عن نفسها وفكرها فيحدث ذاك الصراع من خلال مشهد ابدع في تقديمه الثنائي أسامة كشكار ومريم بن حميدة، ليونة في الحركة وسرعة في اختزال الكلمات الى رقصات تبهر المتفرج تعبر عن موت المراة نفسيا.

المشهد الثاني تنقل الصراع بين الأم وابنها هو صراع للأجيال والأفكار، اختلاف الرؤى والأفكار، الأم تريد لابنها أن يكون نسخة مصغرة من أحلامها وأفكارها والابن يريد لنفسه استقلاليته الفكرية والحرية في اختيار طريقه، امّ تريد إذلال ابنها بتربيته «ربيتك، وكلتك، شربتك، قريتك» وولد يريد فقط أن يكون هو «يا أمي أنا ولدك موش ضدك، مانيش عايق اما نحب نكون انا»، هذا الاختلاف بين الأجيال دمر الكثير من العائلات في تونس وكانت نتيجته الموت أما قتل الولد لامه او العكس فالنتيجة في النهاية مؤلمة ايا كان القاتل.
تواصل الطبوبي الحفر في ثنائيتي المرأة والرجل لتصل إلى علاقة الزوج بزوجته، تلبسها فستان ابيض مع حزام احمر كرمزية الى السلام والأحمر هنا في رمز الخصوبة (الدم)، وتجعله يلبس الأسود (غموض مطلق) لينطلق النقاش من جملة «كيفاش عديت نهارك» ومنها تتفرع المواضيع والاختلافات والصراع لحين الوصول لجملة «حطلي عشايا» بعد كل الصدام الحاد، حوار ثنائي يتخلله الكثير من الكوميديا، اضحاك بغاية مزيد الكشف عن الوجع الذي يربط العلاقات الزوجية «الباردة» والمتواصلة باسم المجموعة وارضائها.
هذه العلاقات تكشف العنف الذي تعانيه النساء عادة، عنف لفظي ومعنوي وجسدي في الكثير من الاحيان، لكن الطبوبي لم تختر شخصيات نسائية ضعيفة بل غرست في كل شخصية انثوية طاقة جبارة لتدافع عن نفسها، هو دفاعها المشروع عن جنس الانثى للبقاء، فالطبوبي تنتصر للمراة ولحقوقها النفسية والاقتصادية، تجعلها قوية رغم الالم وتبعث فيها جبروت النهوض من رمادها لتظل شامخة رغم كل الوجع الذي تعيشه المراة في هذا المجتمع هي من يربح في النهاية، فالذكر تماهى مع اللعبة ونسي الاكل المسموم وتناول نصيبه منه عكس الانثى الفطنة دائما والعارفة بالحقائق، فالانثى في مسرحية اخر مرة كيان من طين لا ينكسر وكيان من نار لا تنطفئ.

«اخر مرة» عملية ابداعية يقدمها ممثلين اثنين، كلاهما عرف بخبايا شخصياته ودرسها جسديا ونفسيا بكل فطنة، كلاهما تميز بالليونة والقدرة على الاقناع، مريم بن حميدة في اول عمل مسرحي لها، راقصة باليه مميزة نجحت في تجربتها المسرحية وكانت رائعة، رشيقة في الحركة وسريعة في تحويل الكلمات الى رقصات تسحر المتفرج، والممثل اسامة كشكار صاحب الاداء المركب، كشكار ممثل له كاريزما وحضور مسرحي مختلف، ممثل ليّن، سريع على الركح يتقن جيدا الفواصل بين النص والحركة، يستطيع النطق بوضوح وسط الكثير من الطاقة الجسدية ليشكلا ثنائي رائع في مسرحية «اخر مرة».
«اخر مرة مسرحية اختزلت الصراع الازلي بين الانثى والذكر، مسرحية كشفت خبايا الصراعات وعبثيتها في الكثير من المرات، ماذا لو قال الزوج لزوجته احبّك؟ ربما كانت النهاية اجمل؟ لو عبرت الام عن حبها لابنها لتغير المصير حتما، توليفة مسرحية اختزلت الكثير من القيم الانسانية عملا بمقولة عبدالكريم برشيد: «أخطر العوالم التي لم تكتشف حتى الآن هو الإنسان، الإنسان غابات كثيفة وغريبة، فيه عديد من الجُزر وهو أرخبيل معقد جداً، وبالتالي فالإنسان بذاته يختزل الإنسانية، المسرح هو أساساً فن الاختزال».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115