فيلم «أبي فيم أفنيت شبابك» لـ أكرم عدواني في المركز الفرنسي بتونس ضمن مهرجان أفلام حقوق الانسان: جلبار نقاش قبس من نور يضيء الدروب الحالكة

العظماء لا يموتون حتى وان غادروا، العظماء كتبوا بالدم والذهب أسماءهم على صفحات التاريخ، الصادقون لا يموتون ومن يدفع حريته لأجل حرية وطنه يظل

اسمه محفور ابد الدهر بين صفحات التاريخ وفي ذاكرة كل وطني صادق، لكن هل يؤمن الجيل الحالي بالوطن فكرة ومبدأ؟ وهل له نفس الطاقة والقدرة على مواجهة كل الصعوبات إيمانا فقط بالفكرة؟ أم اختلاف الخلفيات التاريخية تأثيره؟ هكذا تتساءل كاميرا المخرج اكرم العدواني حين تنتقل بين سليم نقاش ووالده المناضل التونسي جلبير نقاش في فيلم «ابي فيما افنيت شبابك».
الفيلم وثائقي طويل يتناول سيرة المناضل جلبار نقاش وتتيح له الكاميرا المساحة لفتح أبواب الذاكرة واسترجاع نضالات تونسي امن بالوطن فكرة ومبدأ.
ولد مشاغبا: جلبار الباحث عن الحرية في افكاره
الصورة بالأبيض والأسود طيلة الفيلم، اختار المخرج ترك متابعيه دون ألوان قد يكون ذلك لعيش كل الفترات التاريخية التي مررت بعض صورها، صور للحرب العالمية الثانية وأخرى لاعتداءات الألمان ومن بعدهم الامريكان على تونس، في وقت عصيب ولد الطفل «شوشو» (يوسف عند اليهوديين) من أب تجاوز الثانية والخمسين وأم تجاوزت سن الإنجاب انذاك فكان بمثابة السعادة الغامرة للعائلة، عام 1939 ولد جلبار نقاش ابن موريس نقّاش سمّي (يوسف) وأضيف له اسم فرنسي اصيل هو جلبار، طفل يهودي تونسي تفتحت عيناه على الحرب والاستعمار فاختار منذ طفولته أن ينحاز فقط للوطن هكذا يعرّف جلبار نقاش نفسه.
تواصل الكاميرا مراوحاتها التاريخية بين الزمن الحاضر من خلال التسجيل مع جلبار وقد بلغ من العمر عتيّا وفي الوقت ذاته تتبع ابنه سليم وهو يصنع مسرحية مأخوذة من نصوص جلبار نقاش، وبين الماضي البعيد زمن الاربعينات (صور قصف القوات الامريكية للساحل التونسي) وبقية غارات الحرب العالمية الثانية، والاقرب (عودة بورقيبة الى تونس عام 1955 وصور اخرى في نفس الفترة التقطت في باريس وتونس)، كل هذه الأحداث صنعت جلبار المناضل، فالوطنيين ليسوا بمعزل عن العالم خاصة وهو ينتمي إلى الحزب الشيوعي التونسي.
جلبار نقّاش اسم لن ينساه التاريخ التونسي، مناضل دفع الكثير من الأعوام دفاعا عن الفكرة، يفتح نوافذ الذكريات امام الكاميرا مستعملا اسلوبه الكوميدي في كثير من المشاهد «زمن الاستعمار أرادوا تقسيم التونسيين، فحرم التوانسة اليهود من الدراسة في المدرسة المختلطة، واشترطوا قسرا دراستنا في المدارس الفرنسية، هي طريقة للتفريق بيننا، لكن الفرنسية علمتني فهم المستعمر معرفة انّه راحل لا محالة».
تجالسه الكاميرا كثيرا، لجلبار نقاش مساحة شاسعة للحديث، يستعمل المخرج الاطار الواسع لتنقل للمتفرج كل تفاصيل اليومي لشخصية وطنية ساهمت في انتصارات هذا الوطن، جلبار نقاش ليس مجرد اسم لكاتب لمع نجمه بعد «الكريبستال»، جلبار نقاش فكرة وموقف، رجل وطنيّ تحدث بكل فخر على رفاقه في برسبيكتيف «ابلغ سلامي إلى رفيقي محمد بن جنات لأنه لم يرى تحقق أحلامنا وأهدافنا.
تتابعه الكاميرا في أكثر من مكان، إلى برج الرومي تشد السيارة رحالها، هناك يتحدث عن برسبكتيف وكيف أوصلتهم أحلامهم إلى السجن، يتحدث جلبار نقاش عن دراسته الهندسة الفلاحية في فرنسا وانضمامه «لنادي اللغة» وهو إحدى فروع الحزب الشيوعي التونسي، يتحدث عن مكانة الحزب وأحلامه مقارنة بالحركة الشيوعية العالمية، لكل حدث ذكراه، لكل جملة وقعها المميز ولكن نصّ كتب ذكريات مرتبطة بتاريخ تونس، من فرنسا بدأت الأحلام بالاستقلال وفي تونس أكمل الشاب المغامر والحالم كتابة تاريخه ومسيرته الشخصية «في الحقيقة لم أرى في بورقيبة زعيما، كان يتقن الكلام واعتبرته سطحي التفكير، في النهاية هو برجوازي» كما يعلق على إحدى الصور التي تمرّ بذاكرته.
تترصد الكاميرا لحظات البوح، يصبح النقاش محرّك الإحداث والفيلم يعيد كتابته بحركاته، بابتسامة ترسم بين الفينة والأخرى، بتحديه للمرض والإصرار على الحركة وحيدا، عناد وتشبث بالأمل كان بمثابة التفاصيل التي أثرت الصورة لتؤثر في عين المتلقي وتمرّ مباشرة الى الذاكرة وترسخ فيها، فجلبار نقاش تونسيّ جدا، اختار الوطن ودافع عن فكرة الحرية، سجن صحبة رفاقه من برسبيكتيف في الزنزانة العظيمة «الزنزانة رقم17» التي كتب عنها النقاش والشيخ الطرودي وبن جنات وبن خذر الكثير من الحكايات، جلبار نقاش سجن في زمن حكم الحبيب بورقيبة، ونفي الى فرنسا زمن حكم بن علي، ليعود الى امه تونس بعد ثورة 2011 وتحدث في جلسة استماع الحقيقة والكرامة عن العذابات الكثيرة التي لقيها ابناء برسبيكتيف الذين اتهموا «بقتل الاب» أي القتل الرمزي للسلطة الأبوية التي كان يمارسها بورقيبة «كثيرا ما يقول جملة انتم أولادي».
«أبي فيم افنيت شبابك؟» سؤال إنكاري هو عنوان الفيلم وكأنها طلب ملحّ من الولد لابيه ليحدثه عن تونس التي احبها»، ليبوح بقصص الرفاق ويشير إلى فترة التعاضد والأزمة الخانقة التي عاشها التونسيون لتنقل الكاميرا صورة لنساء بملابسهن الريفية وقد افترشن الأرض يطلبن أكلا، ورجال هزلوا بفعل الجوع بعد ان كانوا أصحاب أراض وفلاحين يعيشون من خيرات الارض، تلك التجربة التي وصفها «فاشلة» أثرت سلبا على التونسيين وزادت النقاش إصرارا على الانتصار للمهمشين فكان «papi اليهودي التونسي الأشرس في الدفاع عن تونسه التي يحبّ.
السينما تأريخ
التاريخ يفتح ابوابه ويسمح لجمهور السينما بالسفر عبر الكاميرا لدراسة بعض الوقائع والاطلاع عليها، بطريقة فنية جميلة وميكساج ممتع بين الفيديوهات القديمة والتصوير الحديث يوفر أكرم العدواني درسا في مادة التاريخ والأدب لمحبي السينما، يستعمل الكاميرا لايجاز الكثير من المراحل التاريخية التي عاشها العالم وتأثرت بها تونس، بين إقامة جلبار نقاش وإقامة سليم نقاش في بروكسل.
تتجول الكاميرا بين الهنا والهناك، الهنا مواطن مناضل تونس يؤمن بالوطن والمسؤولية، ويؤمن ان الإنسان يستحق الأفضل، والهناك شاب تونسي يحب الفن ويزدري السياسة، مثقف نهم للقراءة «احب القصص والميثيولوجيا والكتابة ولكن لا افهم ابي في قوله ان الإنسان يستحق الافضل؟ فبعد قراءة التاريخ نحن نستحق الاسوء لاننا سبب كل العذابات على الأرض»، يحاول الشاب قراءة التاريخ من وجهة نظر شاب كبر بعد احداث «11سيبتمبر» فالأحداث التاريخية دائما لها تاثيرها على الانسان.
التاريخ مساحة مفتوحة للتجوال فيها والاتعاظ من دروسها، التاريخ جزء أساسي في تكوين الإنسان ووعيه، التاريخ في الفيلم هو المحرك الأساسي للأحداث وفي كثير من المشاهد يصبح النقاش الابن هو راوي سيرة المناضل الاب بطريقته المميزة والمنفتحة اكثر على الفنون، يحاول التعبير عما كتب من عذابات في عرض مسرحي يتقمصه مع ممثلة شابة ويوظفون تقنيات «خيال الظل»، الكثير من الظلمة وكانّها تاكيد على ظلمات كثيرة عاشها النقاش ورفاقه زمن السجن وبعده.
«ابي فيم افنيت شبابك» فيلم وثائقي طويل، هو نبش في الذاكرة التونسية وترسيخ لاسم مناضل تونسي أحب هذا الوطن ودافع عنه بجسده وفكره، ليكون المشهد الأخير بمثابة رسالة أمل أزلية اذ ينتهي الفيلم على صورة جلبار نقاش مبتسما وهو يقابل محبوبه البحر.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115