مسرحية «حديث التراكن» لصابر الحامي ضمن تظاهرة «قيروان المسرح»: حين يقرر الجسد البوح بحكاياته، أنصتوا

صراع خفي وأزلي، صراع بين المرأة والرجل ربما صنعته المجتمعات بتمييزها بين الجنسين، صراع يصل مداه النفسي بعيدا يشرّحه صابر الحامي في عمله المسرحي الجديد «حديث التراكن»

انتاج مركز الفنون الركحية والدرامية القيروان.
قدمت المسرحية مساء الخميس 3مارس في افتتاح تظاهرة «قيروان المسرح» وهي عمل اجتماعي تراجيدي يشرّح المنظومة المجتمعية ويكشف زيف العادات وبؤس المجتمع في علاقة بالمراة.

من العدم تولد المراة كشعلة من الرماد
تصنع المراة ثورتها الذاتية، تحاول المرأة ان تكون كيانا مستقلا تحارب المجتمع وعاداته، تحارب العقلية الرجعية وتقاليدها تحارب عبارات توجع الروح قبل الجسد «عانس»، «مطلقة»،»ارض بور» وغيرها من الكلمات التي يرمي بها المجتمع كلما تعلق محور الحديث بالمرأة، في المسرحية امرأتان، تختلفان شكلا وفكرا، انموذجين من النساء الموجودات في المجتمع، واحدة تبدو قوية، مثقفة تقرأ الكثير من الكتب، تعمل في اطار من الحرية متزوجة بفنان يؤمن بحقوق المرأة وقدرتها على النجاح، اما الثانية فهي بسيطة فكريا، لا تعرف القراءة تعمل سيدة نظافة «نعرف نمسح ويقراولي، نعرف نظف ويقراولي»، متزوجة من وحش يضربها كلما رغب، امرأة تكظم الضيم والوجع فقط «نحب نربي ولدي ليكون مواطن محترم».

تبدوان مختلفتين ومتناقضتين واحدة قوية وخانعة، لكن مع تقدم الاحداث يكتشف المتفرج ان القالب المجتمعي والصورة الكلاسيكية التي تعود عليها هي الخاطئة، فالمرأة الاولى المتعلمة والمثقفة تعيش بقوالب المجموعة، تحرم نفسها من متعتها الذاتية وتقيد رغبات جسدها وروحها فقط لتكون زوجة مثالية، امرأة تقضي السنوات الكثيرة تجري خلف زوجها تريده ان يعود الى بيته، بينما الثانية لها شخصيتها الخاصة قادرة على افتكاك لحظات من السعادة واثبات الذات رغم كل تلك القيود.
على الركح كلتاهما تلبس الأبيض، واحدة تضع شريط احمر وأخرى تضع منديل المطبخ، في اشارة الى التفرقة الاجتماعية بينهما واختلاف المكانة، لكنهما في النهاية امرأة تشعر بالخوف وتبحث عن الحب وتريد ان تحقق ذاتها وسط المطبّات المجتمعية والسلطة الذكورية، كلتاهما تبحث عن طريقة لإطفاء رغبات الجسد والروح وسط مجتمع وعادات تؤمن فقط ان للرجل كامل الحرية في هجران زوجته او وصالها، له كامل الحرية ليرحل او يبقى ولها فقط السمع والطاعة، لكن المسرح فعل انساني وينتصر للإنسان اولا لتحقق المرأتين ثورتهما على الذات والآخر وتصنعان انتصاراهما بعد كل مشهد.
صراع المرأة والرجل الصراع الازلي بين الذكر والأنثى تنقله مسرحية «حديث التراكن» بطريقة مغايرة، اعادة لنفس الجمل وبترتيب مختلف، اعادة لنفس الحركة في المشهد، تكرار للرقصة او الفعل الدرامي وكأنّ بالمخرج من خلال عملية التكرار يريد حفر المشهد وترسيخه في ذاكرة المتلقي وربما دفعه للوقوف امام مرآة الذات ومساءلتها عن علاقته بالنساء المحيطات به.

الابيض قيمة ضوئية تكشف عتمة الشخصيات الداخلية
خلق ادم وحيدا، ونزل الى الارض وحرم بقاءه في الجنة، هو ابن ادم وخليفته، يشبهه في وحدته وعزلته، في المسرحية رجل وحيد، ادم واحد يحارب طواحين العادة والمجتمع، رجل «دكتور ومثقف وفنان» كما تعرّفه احدى الشخصيات، رجل يهرب من نواميس المجتمع وفكرة «الزواج التقليدي»، ادم يبحث عن حوّائه كما يتخيلها، حوّائه التي يظل سنين يرسم ملامحها «رقبة مرمر وصدر حنين وشفاه قرمزية وأنفاس حارّة» هكذا يتخيل حوّائه، حوّاء متفردة يخلد السنين الطويلة يرسمها هاربا من كل مكبلات المجتمع، هو الاخر يتماهى مع ادم الاول يظنه الجميع خرج من الجنة «زوجة مثقفة وابنتين ومهنة تدر اموالا وحضور مجتمعي وبريق مميز» يتركه ويهرب الى «وكالة» ليستفرد بأناه ويرسم حوائه ويبحث عن الحبّ.
واحد وحيد ومتفرّد يبحث عن ذاته، يريد رسم امرأته، يبحث عن العزلة فتلاحقه ضوضاء المجتمع، اختار المخرج لشخصيته اللون الأبيض، يلبس الابيض كاملا لا شائبة فيه وكأنه يخبر الجمهور ان فنانه ذاك كاذب او هو مجرد قيمة ضوئية لا أكثر فهل يوجد فنان يلامس الالوان يوميا يحافظ على نقاء ثوبه؟ هل الوان الرسام ذاك مختلفة لا تلطخ اليد او الثوب؟ وكأن بالمخرج يبوح ان هذا ليس بفنان بل مجرد ظاهرة، هو فقط فكرة تريد الهروب الى البياض بعد سواد كثير كان يعيش داخله، يختار المخرج لفنانه ذاك ركن مصنوع من الخشب، صغير الحجم تملاه الشقوق وبعض الستائر البيضاء المعلقة وكرسي اقصى الركح وما يجمع بين هذه العناصر هو الاضاءة الصفراء التي تكون بمثابة «الكلوار» ودليل الشخصيات للحركة وكأنّه يكشف العتمة الداخلية التي تعيشها الشخصية، بياض خارجي يقابله سواد وعتمة داخلية لا حدود لها.

«حديث التراكن» مسرحية تشرّح العلاقات الزوجية المتشعبة، تكشف زيف المجتمع في علاقته بالمرأة وطريقة معاملتها، عمل مسرحي يعرّي القبح النفسي والمجتمعي ويضعه على طاولة التشريح، ديكور بسيط صنع من الخشب وللخشب دلالة على التمسك بالقديم وكأن بصاحب العمل يخبر المتفرج انّه امام علّات اخلاقية ومجتمعية قديمة متجددة.
«حديث التراكن» عنوان يتكون من مترادفتين «الحديث» بما تعنيه من كلام كثير و»التراكن» مفردة من الدارجة التونسية وتعني «المكان الخفي، او غير المكشوف» ليصبح معنى الجملة الحديث غير العلني الذي يدور في فضاءات مغلقة، حديث لا يمكن البوح به امام المجموعة ومن يتتبع احداث المسرحية يستشفّ العنوان ويجد دلالاته المعنوية في بوح الشخصيات وحديثها عن الذات والوجع المخبئ عن الآخرين، يسردون طلبات الجسد المكتومة «انا شاهية، توحشتك» فليس من المسموح الحديث عن رغبة الجسد او صوته في العلاقات الزوجية او العلاقة بين المراة والرجل عموما، لان رغبة الجسد في المنظور المجتمعي الاخلاقي «غير مباحة ومرفوضة وتصل للعيب في الأغلب وكثيرا ما تتهم المراة بأبشع التهم متى تحدثت عن سطوة الجسد او منحت الفرصة لصوته ليتحدث.

حديث التراكن مسرحية اجتماعية تطرح موضوع العلاقة بين المراة والرجل وتشرح نظرة المجتمع لهذه العلاقة، عمل ينتصر للمراة ويجعلها الاقوى في تسيير الاحداث وتغيير مجريات الواقع خدمة لنفسها ولجنسها.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115