بورتريه: الفنانة المسرحية وفاء الطبوبي: الله محبة والمسرح فعل محبة أيضا، أحبّوه تحلقوا في سماء الإبداع والنجاح

عاشقة لفنها، تعمل بصمت كلما شاركت في مسابقة أفتكت الجائزة المتكاملة، تنحت في صخر الوجع وتحوله إلى أعمال مسرحية مختلفة تشبهها

في تمردها وثورتها الذاتية، تونسية جدا تعشق هذا البلد الصغير «جنتي الجملية» وتعشق اكثر فعل المسرح «الحياة والامل».
وفاء الطبوبي فنانة مسرحية مخرجة ومؤطرة واستاذة تحصلت آخر أعمالها «آخر مرة» على جائزة العمل المتكامل في الدورة الاخيرة لايام قرطاج المسرحية، امرأة بعزيمة حديدية، زادها في المسرح الحب.
شغفت بالمرح منذ طفولتي واخترته ديدني في الحياة
تتحرك كطفلة صغيرة في القاعة، أحيانا تصبح صارمة كمعلم يريد ابلاغ رسالته، حينا ترسم ابتسامة لتشجعك على الاستمرار وأحيانا تصمت وتنظر الى الفراغ قبل مواصلة الحوار، في «الريو» او «درانا» كما تسميها تنتقل بكل شغف فالجميع يعرفها والكل يحبّها ويقبل عليها لانها «كعبورة حب» كما ينعتونها، المخرجة وفاء الطبوبي فتحت ابواب الذاكرة وعادت الى الطفولة الى تلك الطفلة الشغوف بالتمثيل والمسرح، فمراهقة عاشقة اكثر لهذا الفنّ، وفي اغلب المراحل العمرية كان المسرح رفيقها في الحلمة و تعزيز ثقتها بذاتها وافكارها كما تقول.
اسمها وفاء من اسمها أخذت الكثير فهي وفية للمسرح، وفية لوطنها ووفية لفعل ابداعي مقاوم ونبيل تشتغل فيه بإرادة صلبة لا تعرف الهزيمة، عزيمة امراة تشابه الأرض في الولادة وتتماهى مع الخالق في خلق اعمال مسرحية تنتصر لفكرة «المحبة» فهي «ممارسة المسرح كانت حلما لازلت اعيش معه، في العائلة الموسعة كانوا يرفضون ان امارس هذا الفن ومن المضحكات المبكيات ان احد اعمامي ظنّ انني ادرس الشريعة واصول الدين في كلية الشريعة وصدم يوم تخرجي من المعهد العالي للفن المسرحي، في الحقيقة كان خلفي جبلا قويا لا يعترف بالهزيمة هو والدي اول من آمن بوفاء وشجعها لتمارس المسرح وتنخرط في الفعل الابداعي الذي تريده، ابي كان جمهوري الاول وسندي الدائم من حبّه وتشجيعه ولدت وفاء الطبوبي ولازالت تقاوم لتقدم منجزها الفني» بهذه الجمل تعبّر عن البدايات، والطبوبي مارست المسرح المدرسي فمسرح الهواية ثم الاحتراف، تقريبا جميع المدارس مرّت بها لتصبح التجربة ناضجة ومختلفة.
فلنحارب العنف بالحب
هادئة كنوتة الناي حين يحلم، وثائرة كموجة بحر غاضب، بينهما تتلون، توجه الخطاب لتلاميذها في الريو، تشاركهم الحلم بانجاز عرض قياسي وأحيانا تشاكسهم بمتعة الام، وفاء الطبوبي لوحدها لوحة تشكيلية حين تتحرك وتتحدث فهي تستعمل كل الحواس وتشركها في عملية الخطاب لتكون مدهشة ومختلفة، امرأة من نار، تونسية تصنع من الوجع ابداعا، تحارب الخوف والعنف بالحب.
في تجربتها تنتصر دوما للحب والمرأة من «الارامل» الى «اخر مرة» تجربة مسرحية تنحاز للانسان ولقيم الحب والجمال فهي تعمل بالحبّ «لا اكتب دون حبّ مهما كانت المعيقات، لا حاجتي للمال ولا الظروف المريحة تجربني لاكتب دون الحبّ، فقط اكتب بالحب يحرّكني الحب، لا تحرّكني المادة، حين يقف حب الحلمة، حب الشارع حبّ البلاد حينها لن يكون هناك انسان ويصبح شيئا اخر» كما تصف اعمالها.
وتضيف محدثتنا ما تتناوله وفاء يكون من منطلق الحب، لذلك اشتغل على نصوصي واقوم بإخراجها، فكرة سكنتني وحلمة أحولها من الورق الى الركح، واشعر انني محظوظة جدا في رحاب المسرح، في هذا الفضاء السحري اشعر انني طاقة من الامل لا تنضب، في المسرح «نحب ونتحب» في المسرح اشعر انني كائن جميل، في المسرح اكون محاطة بالناس التي تحبني لذلك احب المسرح، وسأحبّه.
المسرح علمني كيف احيا وأواصل الحلم
الانسان طاقة جمالية وابداعية، من طفولتها تسرق الكثير من الصور تزيدها قوة، من صديقاتها المقربات تستلهم افكارها، من المسرح تشحن نفسها بالقوة لتبدع، تونسية حالمة ولا حدود لاحلامها، واقعية جدا وفي الوقت ذاتها يسكنها الخيال الجامح، امراة كلما انجزت عمل مسرحي حصدت معه افضل الجوائز، لمرتين تشارك في المابقة الرسمية لايام قرطاج المسرحية وتحصد الجائزة افضل عمل متكامل المرة الاولى دورة 2018 ثم دورة 2021 وكأن المسرح يكافئها على صبرها واجتهادها في التجريب والتجديد.
علاقة وفاء الطبوبي بالحب والمسرح كعلاقة الام بوليدها، من شموخ هذا الفعل الحي تعلمت الحياة والمقاومة، من المسرح تعلمت ان اكون انسانة قوية ومتوازنة، المسرح علمني ان الحب طاقة لا تنضب، المسرح علمني الصبر، المسرح كما تراه الطبوبي حي ولم يمت، المسرح من القرن الخامس قبل الميلاد لازال واقفا شامخا، يظهر من الرماد وأبواق النواح «وامسرحاه» جميعها مخطئة، المسرح كما الحياة يجمع الجميل والقبيح ومفهوم القبيح غير ثابت لان لا يمكن توحيد الذوق الفني، المهم ان الفعل المسرحي موجود، السيء أتجنبه لأنجح والجميل اعانده لانجز مثله، المسرح هو الاخر كما الحياة يقوم على الحلو والمرّ لكن الجميل انّه يعلّمنا كيف نحيا وكيف نواصل وننبعث من رماد تعبنا واوجاعنا.
تعمل بصمت، مخلية نحل لا تعرف التعب، تختار رفاق الفكرة بكل دقة، تختار من يشاركونها الايمان بالمشروع قبل تنفيذه، وفاء الطبوبي انسانة تلقائية ومخرجة صارمة وقاسية جدا اثناء التحضير لاي منجز ابداعي، المسرح كما «الجندية» ينجز في كنف الصدق والايمان لنحقق النحاج كما تصف منجزها وطريقتها في العمل «ان شاء الله يسامحوني الاولاد لاني صارمة جدا اثناء التحضيرات».
تصمت قليلا، ترحل بعينيها في الصور الكثيرة المعلقة في قاعة الريو، وتقول «اتشاهدين تلك الصور المتراصة هي حكايتنا اليومية، شعراء وعظماء، فنانين وحالمين، مقولات وحكم جميعها تزيد الحائط جمالا كذلك القصص اليومية التي تلتصق بمخيلتي من الشارع وحكاياته تزيدني حكمة وقوة وتحفزني لاقف شامخة واحوّلها الى فعل ابداعي»، في الريو تشدك ايها القارئ جملة « للمدن ابطالها ومجانينها ولهذه المدينة ابطال حقيقيون ومجانين حقيقيون» ووفاء الطبوبي بطلة حقيقية في تمسكها بأحلامها ومجنونة بالمسرح والانشغال به.
«اخر مرة» ليس آخر الاحلام بل أحدها
«اخر مرة» هي المسرحية الاخيرة التي فازت بجائزة افضل عمل متكامل في ايام قرطاج المسرحية، «عمل كتب منذ ثلاثة اعوام وبقيت في رحلة البحث عن شراكة للانتاج، من الصدف ان النص مكتوب عام 2019 وقبل للدعم وفكرة النص بسيطة اذا فني العالم وبقي فقط انثى وذكر ما الذي يحدث؟»، في الحقيقة يوميا نسمع عن احداث عنف لا مبرر لها وجع نستنطقه حولته الى نص مسرحي، وخرج النص من الورق الى الركح فترة «الكوفيد» لان العمل أساسا مبني على فكرة العزلة والشعور بالوحدة، في مرحلة «اليويو» و«الفريكاسي» تساءلت عن العنف وأسبابه وحوّلت كل ذلك القلق والأرق إلى المسرح والبرايف.
وتضيف الطبوبي بفخر الأطفال كتب النص قبل فترة الكوفيد، تنبأت بما حدث انطلاقا من سؤال الانثى والذكر ، آخر اثنين في قانون اللعبة يكونان أخوين لوجود تلك المودة الطبيعية، هل يأخذهم خوفهم من التوحش الى التمدّن او العنف والقتل؟ للاسف اغلب الجرائم الكبرى سببها هفوة بسيطة «خيط رفيع يسبب الكارثة»، والرسالة الاساسية من العمل الدعوة للحبّ «حبوا بعضكم، في المسرحية مثلا لو قالت الشخصية احبّك للشخصية الاخرى لانتهت اللعبة والوجع».
فنحبك تنجينا من الوجع والتعب، «قول نحبك في وقتها وغير وقتها، قول نحبك لناسها وغير ناسها فالمحبة كما البذرة ترميها في الأرض ولا تعرف متى ستثمر لكنها حتما ستثمر الكثير من الجمال، فتحت الضوء الاحمر على فكرة الحب، اعمل بالحب واريد لمن يحضرون عروضي ان يعرفوا قيمة كلمة «نحبك» وقدرتها في تغيير الانسان نحو الاجمل» هذا شعار المسرحية وهو زادي في الحياة والمسرح.
«اخر مرة» مسرحية تنبّه فيها من العنف وتأسس من خلالها للحب، مسرحية تبدو بسيطة في الفرجة الاولى، انثى وذكر يتحاوران ويحدث الصراع تكون نتيجته الالم، لكن الفرجة الثانية ومزيد تفكيك العمل يكشف عن الطرح الفلسفي الموجود بين طيات الكلمات وحركات الممثلين، عن زادها في كتابة نصها تقول الطبوبيانها «متاثرة بعلم النفس والاجتماع، ايّ عمل قبل كتابة الشخصية انهمك في هاذين العالمين لانهما يساعداني لقراءة الشخصيات وكتاباتها، وعلى كل المسرحيين التاثر بعلم النفس والاجتماع، على المسرحي ان يقرئ مجتمعه ايضا» وتضيف المسرحية الحالمة «اخر مرة معقّدة كتعقيد التونسي وبسيطة كبساطة التونسي هذا المعقّد البسيط هي المرآة، فقط قمت بقلب المرآة ليشاهد المجتمع نفسه، لم احاول تركيب المركّب ولا التفلسف اخذت ما شاهدته من المجتمع وكتبته بشكل بسيط لكي يفهم وتصل الرسائل».
يقوم العمل على الثنائيات، يحمل المتفرج الى ثنائيات الابيض والاسود، الحب والكره، نص مكتوب بوجع لانّ الحب يوجع حسب تعبير الطبوبي و الثنائيات هي نحن، الثنائيات الابيض والاسود، الفرح وحزن، الظلام النور هي الموجود في العالم اترجمه، هي تأمل للطبيعة هي الدنيا كما قراتها باحساسي وحولتها الى الركح، موت حياة، حقد محبة، هي الانسان والطبيعة في النهاية.
«آخر مرة» سؤال ازلي عن علاقة الانثى والذكر، لماذا نكره انفسنا، لماذا طاقة الكره التي تحرك العالم، لم كل هذا العنف وأنا لا استطيع العيش دون الآخر، حين أحب نفسي وأتواصل معها يمكنني حب الاخر والتواصل معها، الاخر ليس الحجيم، نحن فقط لنا القدرة على ايقاف نزيف العنف يجب ان نعرف كيف نضع نقطة ثم نعود للكتابة من جديد على صفحة بيضاء نملأها بالامل.
«اخر مرة منجز مسرحي ابدع في تقديمه المحاربين مريم بن حميدة واسامة كشكار، الثنائي الرائع والخارق كما تصفهم مخرجة العمل،وعن اسباب نجاحهم تقول «بني بينهم الولف، يجب أن نتشارك الحب لينجح المشروع، الحوار والمحبة يصنعان النجاح، اسامة كشكار ومريمبن حميدة يعتبران خارقين، ما طلبته مستحيل، بكيت كثيرا فالعمل خلّف لدى اسامة «7غرز» ولدى مريم الكثير من الوجع، بكيت كثيرا أثناء التدريبات، شاهدت الدماء على الركح، شاهدتهم يتالمون، أنهكت الاجساد على الركح وقدموا الكثير ايضا، اسامة كشكار ومريم بن حميدة في الحقيقة كلاهما رائع كلاهما صادق وكل الصدق حولوه الى اداء فني اعتبره مبهر.
اخر مرة عمل اتعبنا كثيرا، متعب جدا، لا اتذكر عدد المرات التي سقطوا فيها منهكين على الركح مريم مشروع ممثلة كبيرة واسامة اليوم اهم ممثل في تونس له طاقة عظيمة من العطاء دون توقف وارفع لهما القبعة احتراما لكل ذاك الصدق.
التكوين والتدريس رسالة امارسها بشغف:
«مدام توحشناك» جملة تسمعها كثيرا كلما شاهدت الطبوبي في قاعة عروض مع ابنائها الذين درستهم سابقا والذين تكونهم حاليا، فأنا «مكونة» بالاساس، أؤمن ان المسرح المدرسي فعل نضالي يومي، مادام التلاميذ يقرئون المسرح فنحن نصنع مستهلكين للفن ومنه مواطن سوي متوازون، المسرح يقوّم السلوك المسرح يهذب الذوق المسرح بعلمهم مقاومة العنف في المحيط ويشحن المراهق خاصة بطاقة من الثقة لاثبات ذاته، حين انجز هذا فقد اوصلت رسالتي هكذا تبوح بشغفها لفكرة التكوين.
وتضيف اخترت مهنة التدريس لأنها مسؤولية، مهنة حساسة لكن التمكن من آليات التكوين يساعدنا، روتين يومي يقوم على الابتسامة في وجه التلميذ لمساعدته على التماهي مع الدرس واعادة نفس المعلومات، ومحاولة حماية التلميذ واحتوائه، حضور ذهني وجسدي دائم مع تغير القسم والتلاميذ، ربما ينعكس التعب على الجسد (مشيرة الى شحوب الوجه) لكن الروح مسكونة بالهدوء والمحبة، شخصيا خاف من العنف المدرسي وعنف الشارع يبقى فقط الحب لاعزز ثقة ابنائي بذواتهم، المحبة نتشاركها لانها زادنا الوحيد في ظل محدودية الامكانيات.
وفاء الطبوبي استاذة مسرح مميزة، يقبل عليها تلاميذها ويشاركونها متعة النجاح «لم افشل في مهنة التدريس، ابنائي في المعهد العالي للفن المسرحي وبعضهم اختار دراسة اخرى وحافظ على حب المسرح متابعة»، في هذا المجال الراقي والنبيل خضت العديد من التجارب المسرحية الانسانية اتذكر انني درست في المركز الثقافي لمدينة تونس بملاليم قليلة لثمانية اعوام ابنائي من حيّ الملاسين ونجحنا وانقذناهم من الادمان بالمسرح فالعمل على المسرح العلاجي مهمّ جدا واعتبر انني نجحت في تلك التجربة الانسانية، درّست ايضا لاحدى عشرة عام في دوار هيشر كوّنت تلاميذ واقول انني نجحت فابنائي واصلوا دراستهم وتحصلوا على شهائدهم العليا وفخورة بمنجزهم في الحياة، وحين اقف امام تلك المرآة اشعر بالرضا على تلك الاستاذة المحبة لمهنتها والراغبة دوما بالنجاح مع تلاميذها في صناعة ذواتهم.
احاول كثيرا ان اقدم طاقة من الحب والامل لابنائي الذي ادرسهم في المعهد او «الريو» الان، نتشارك فكرة حب المسرح وتوزيع الابتسامة الصادقة، نريد ان نحلم معا، ننجح ونفشل، ننهض ونسقط لكن زادنا من الحب لا ينخفض مطلقا نظل نقاوم به معه ايضا.
تنحت مسيرتها الفنية بثبات، تصنع عوالمها الابداعية، وفاء الطبوبي تجرب وتحاول دائما ولا تخاف الخطئ او الفشل لانه جزء من كينونتنا، هي انموذج للمراة التونسية الحالمة والمدافعة الشرسة عن حقها في تحقيق احلامها على الركح، امراة لا تهاب الواقع ومصاعبه فهي «مازلت مؤمنة بالبلاد وعبادها لن استسلم ساقاوم واحلم هناك الكثير من الامل في المسرح وفي تونس سنحاول ان نغير البلاد مادمنا على قيد الحياة وقيد الامل».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115