جمالية الحكي السريع: في «نصوص مهربة» ليونس السلطاني

بقلم: عبدالله المتقي كاتب، المغرب
ضمن منشورات «دار ميارة للنشر والتوزيع» وفي حلة نضرة وأنيقة، صدرت للقاص التونسي يونس السلطاني في إطار القصة القصيرة جدا،

مجموعة متميزة تحمل عنوان «نصوص مهربة»، وبفسحة غلاف خضراء رشيقة تتوسطها لوحة للفنان التشكيلي «كاندنسكي»، وتشتمل على قصة قصيرة جدا، في حيز طباعي على مقاس كتاب الجيب، وعلى امتداد 120صفحة، وتجدر الإشارة أن السلطاني أطل علينا بمجموعة قصصية قصيرة، وهي «نحو ضفة أخرى»المتوجة ضمن مسابقة كتاما للإبداع، ثم «الممضي .. حضرة زماني» سنة 2015.
وهكذا يكون يونس السلطاني، اسما من ضمن مجموعة أسماء تونسية أغواها الحكي السريع، ونذكر من هذه الأسماء على سبيل المثال: ابراهيم درغوثي، فاطمة بنمحمود، محمد بوحوش، فتحية دبش، أحمد السالمي، والمشهد القصصي مازال مرشحا للمزيد من الأسماء لاحقا، لأن الزمن «هو زمن القصة القصيرة جدا، يشاغب زمن الشعر وزمن الرواية وزمن القصة القصيرة أيضا»(1).
وقبل أن ألامس هذه الكبسولات القصصية المهربة للسلطاني، لا بأس من الحديث عن هذه الظاهرة الإبداعية الجديدة التي ملأت دنيا الحكي، وشغلت النقد وعشاق الكتابة الوجيزة، وتجنب التفاصيل والكوليسترول السردي.
وعليه، تعتبر القصة القصيرة جدا شرارة وامضة وشكلا قصصيا جديدا «بدأ يتأسس في فترة الخمسينيات بأمريكا اللاتينية، وحقق أوجه بالأساس خلال الستينيات إلى الثمانينيات، وتحديد أهم سماته كان موازيا لتشكل مابعد الحداثة، التي علامتها هي رفض الأفكار الكونية والعقلانية والحقيقة والتطور الحديث»(2)، وقد انتقلت عدواها في الآونة الأخيرة، ولقيت إقبالا من لدن كثير من المبدعينوالنقاد العرب، فأمطرت المجاميع والنقود، كما أقيمت الملتقيات، وأنجزت الرسائل حول هذه الظاهرة الطارئة لأنها: «بنت وقتها وصدى لحظتها» على حد تعبير نجيب العوفي فرضتها مجموعة من «شروط الزمن الراهن بكل خصائصه وتعقيداته وسرعة حركيته، وأنا مع الباحثة نانارودريكيس روميو حيث تقول إن كل مرحلة تتطلب أشكال التعبير التخييلية وتقنياتها الجمالية وحجم النصوص والرؤيا للعالم، وليست القصة القصيرة جدا إلا نتاجا لمرحلة ما بعد الحداثة»(3).
وبالنظر إلى العنوان الذي رشحه القاص السلطاني اسما لمجموعته «نصوص مهربة»، نقف على إلحاحية اللفظتين «نصوص» و«مهربة»، مما يدعو القارئ إلى فك شفرتيهما والتحاور معهما، وبعد القراءة الفاحصة والطوفان في عوالم هذه المجموعة، تكون النصوص هي القصص القصيرة جدا، ويكون تهريبها في اتجاه يرتئيه القاص، وضعية تنتجها شدة مراقبتها وعدم قابليتها للضياع والتهميش والتشتت والانخراط في التدجين، مما ألصق بها العصيان والتمرد والخروج عن مألوف الحكي المتداول.
فماذا عن هذه الباقة القصصية ؟ وما القضايا التي تطرحها نصوصها القصيرة جدا ؟ وكيف تم التعبير عنها وبأية طريقة ؟
تصدح المجموعة بمواقف مختلفة تجاه جملة من القضايا الاجتماعية والسياسية وغيرها، وهكذا نعثر على موضوعات قريبة من الثورة والخيانة والتملق والإدارة والسياسة وغيرها تم التقاطها باقتضاب لتدل على شيء عميق.
ويمكن أن نستدل بخصوص القضايا الاجتماعية قصد التمثيل لا الحصر بقصة «اكتشاف»حيث يقتحم بنا السلطاني، موضوع الخيانة التي لم تعد ميتة خطيرة غسان كنفاني بل أصبحت وجهة نظر وابتذال الجسد ورخصه، وكما الهواء تدلف إلى منازلنا بمجرد فتح الباب، لنستمع إليه يقول:»منذ نعومة أظفارها وهي تتلقى مواعظ الأخلاق من والدتها، حين بلغت سن المراهقة، تبينت أن الضيفين اللذين يأتيان باستمرار لم يكن أحدهما خالها ولا الآخر عمها» ص 31، وتلك هي أضحت مكشوفة وما فتئت أن تبدت في مخايل المراهقة، ولم تعد تنطلي عليها كما كانت طفلة بريئة وزهرة جميلة، تدوس كرامتها الأحذية البغيضة لكل من الأم والخال والعم ..
ونقرأ في قصة «أوراق» مدى تفسخ العلاقات الاجتماعية بعد الذي جرى من تشويه للأنساق المجتمعية وأنتج ما أنتج من صدإ وخلل يقود إلى تفكيك الروابط الإنسانية وتشظيها بما فيها العلاقات بين الأصدقاء، يقول السارد:»أكد الكشف أن: لا التدخين ولا الكحول.. ولا هم يحزنون.. وأن أهم أسباب إطالة العمر الابتعاد عن عشرة الحاسد وناكر الجميل « ص22.
هكذا تأخذنا القصة إلى عالم إنساني آخر بعيدا عن عوالم الأصدقاء المحشوين بسموم الحقد وعقارب نكران الجميل، التي تنخر هذه الآصرة كما الكحوليات ونيكوتين وقطران التدخين، وهذا من شأنه تمديد العمر وإطالته، وهو ما أعلنه وأكد عليه الكشف الطبي الذي يكسر أفق انتظار القارئ، ومن ثم، إدهاشه واستفزازه إيجابيا.
وفي نفس سياق الاقتراب من هذه القصص المهربة عن كثب، سنقوم بعملية إنصات لقصة «خيبة»، حيث النقد اللاذع والسخرية المتهكمة على واقعنا السياسي، يقول السارد:»أشاد المشاهدون بحكمة الوزير في التصدي للمفسدين وإحالتهم على العدالة.. بمغادرته البلاتو التلفزي، تدخل القاضي هاتفيا نافيا أن يكون قد تسلم الملفات» ص 48.
في هذه القصة يقتنصالسلطاني بذكاء ما يعتمل في مجتمعاتنا من كذب سياسي أبلق، وضحك على البلاد والعباد بخطابات أقل ما يقال عنها أنها تشبه الفجل، حمراء من خارجها بيد أنها ناصعة بيضاء من الداخل.
ونفس الضحك والاستهتار بالكرامة الإنسانية في قصة «فاعل خير»، بيد أنهما تجاوزا الحدود الجمركية، ليتم عولمتهما وتدويلهما، لتبقى نفس الرحى تدور على الكادحين والفقراء، الرحى التي يتحكم فيها دهاقنة الاستغلال، يقول السارد:»
- سيدي، هل باتت مهمتكم تقسيم الأوطان وتهجير السكان ؟
- أمين عام الأمم المتحدة للصحافي :
- لا، مهمتنا الوحيدة توفير المؤونة في المخيمات» ص 42.
هاهنا نقف أمام العمق السياسي المباشر، وهو ما يوحي باهتمام الكاتب بأوضاع الأوطان وتسلط القوى المهيمنة وامتلاكها للرقاب، مما يدفع المتلقي إلى تعميق التأمل فيما ينطلي على العالم من بشاعة وترخيص للكرامة الإنسانية.
والذي يقرأ قصة «حظر الهدوء»:»نكاد نغرق في لذة فوضى الثورة، ضجيج الباعة واحتلالهم للأرفة، تفويتهم في الأسعار، عرضهم لبضائع مهربة ومنتهية الصلاحية دون حسيب أو رقيب.. فجأة قطعوا عنا المتعة.. رحنا ندعو للمحافظ بغفران الذنب» ص 108.
لا بد وأن يشم تناصها مع السياق السوسيو السياسي لتونس، معنى هذا أن القصة كانت إحدى التجليات لما بعد ثورة الياسمين، فلا شيء سوى الفوضى التي اعترت الوطن وأصابته بالدوار، إن لم نقل العبث، وبذلك تكون الثورة دماء جديدة يهيء الناس لاستقبال واستيعاب متغيراتها.
وضمن نفس التهريب القصصي، يطوف بنا القاص في أروقة مؤسساتنا الإدارية التي تخفي الكثير من الأعطاب العميقة، وتتطلب اقتحامها، ومن ثم، بداية التفكير في ترميم تصدعاتها، نقرأ في قصة «شفافية»:»عندما نشرت تجاوزات المدير على أعمدة إحدى الصحف الاستقصائية، صودرتملفات المكلفين بقسم المالية وأحيلوا على المجلس ليقرر طردهم بتهمة إفشاء السر المهني» ص 40.
هذا النص بعبارة، يلتقط بمهارة مدى تعسف الإدارة في غياب الحسيب أوالرقيب، ومن ثم يكون القاص قد شن هجوما عن قصد وسبق إصرار، على الاختلالات التدبيرية والتسييرية، وضرورة الإبداع على الدوام، هي الدخول من الأبواب، لا تسللا من النوافذ، كما يذهب إلى ذلك أرنست فيشر.
ونخلص أخيرا، بعد هذه الرحلة الخاطفة في عوالم «نصوص مهربة» للقاص التونسي يونس السلطاني، إلى أن قصته القصيرة جدا تحكي سريعة وخاطفة، تحولات مجتمعها المحلي وقضاياه القلقة، بل تجاوزت حدودها المحلية كي تحكي لنا عن هذا العالم الذي أصبح خربة سوداء.
وأخيرا، وليس آخرا، لا أحد يشك في أن هذه الخراطيش والومضات القصصية الصغيرة، إضافة نوعية وعابقة للمشهد القصصي الوجيز بتونس والعالم العربي.
------
• هوامش:
1) يونس السلطاني، نصوص مهربة، دار ميارة للنشر والتوزيع، ط ، تونس.
2) د.محمدأقضاض، مقاربة القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا في أمريكا الإسبانية والعالم العربي، فضاء للنشر والتوزيع.
3) نجيب العوفي، كأن الحياة قصة قصيرة، شركة النشر والتوزيع المدارس، ط، المغرب.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115