فقرة مسرح الحرية ضمن أيام قرطاج المسرحية: أمل يدغدغ الأرواح التواقة للحرية.. نقطة ضوء وشحنة حب

حين يحوّل السجين جدرانه العالية إلى نصّ، حين يصنع السجين من العقوبة فرصة ليمارس فعلل إبداعيا حيا، حين تكون الأحلام اكبر من كل الجدران

فأنت في حضرة المسرح تجربة مختلفة تخرج من السجون الى القاعات، تجربة إبداعية موشاة بالحلم والامل هي «مسرح الحرية» الذي يقدم ابداعات المودعين على الركح وتشرف على الفقرة الهيئة العامة للسجون والاصلاح والمنظمة الدولية لمناهضة التعذيب بالشراكة مع ايام قرطاج المسرحية.
في مسرحية «الحرية» تتغير الأدوار بين المودعين والجمهور، تفتح شبابيك الأمل والنقد، يخوضون في كل المواضيع بجراة، ينقدون الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، يدخلون الى القاعات من «الباڤا»، ويتحولون الى ممثلين يبهرون الجمهور ويعودون الى وحداتهم السجنية محملين بهتاف الجمهور واعجابه، يعودون وقد شاهدوا الاهل مباشرة واستمتعوا بعناق حقيقي، تجربة قدم فيها 14 عملا مسرحيا كانت مميزة ومختلفة، تجربة مسرحية انسانية، هي نقطة ضوء يتسرب وينتشر في كل الوحدات السجنية تقريبا.
الجرأة في الطرح والنص
تجربة ثقافية مختلفة، ولدت خلف القضبان وشاهدها الجمهور في ركح دار الثقافة ابن خلدون، تجربة إبداعية تونسية الروح والانجاز، المسرح ولد داخل السجن وخلف القضبان وقدم أمام جمهور مختلف الافكار والرؤى، اربعة عشر عملا مسرحيا قدم في فقرة مسرح الحرية، 14عمل عرضت أمام الجمهور وتنافست على الجوائز، أعمال تمس كل المواضيع تقريبا.
على الركح تقع مناقشة المواضيع الاجتماعية «مرا ونص» سجن صفاقس يقدم العلاقة بين المرأة والرجل في المجتمع التونسي وينطلق من تجارب النسوة المودعات، و «غربة» سجن المسعدين يتناول موضوع الغربة خاصة لدى النساء والأسباب التي تدفع المرأة لترك وطنها والاغتراب في مكان اخر، العمل مشحون بالنقد للعقلية المجتمعية أولها النظرة الدونية للمرأة وقد فازت المسرحية بالجائزة الثانية في ايام قرطاج المسرحية في دورتها الثانية والعشرين، كذلك مسرحية «خرّف» لنادي المسرح سجن برج العامري الذي يفكك العلاقات الاسرية والمجتمعية ويضع قبح المجتمع على الركح، عمل ينتصر للمراة وينقد المجتمع ويشرحه بطريقة فنية ممتعة و»على ظهر المالح» لسجن المهدية وتتطرح بجراة موضوع «الحرقة» الموضوع الحارق الذي يؤرق العائلة التونسية و الحالمين بالهجرة الى الضفة الاخرى، الحرقة طرحت في مسرحية «أولاد الهامش» حين يتحدث النزيل عن تجربته التي حلم فيها باروبا فوجد نفسه في السجن.
في الأعمال المقدمة ينقدون بجرأة الواقع السياسي على غرار مسرحية «زنزانة» لسجن برج الرومي و«أولاد الهامش» ففي العملين نقد كبير للقضاة والمحاماة و السياسيين في كلا العملين يتحدثون بجرأة في المواضيع المطروحة، كلا العملين لو شوهدوا خارج الإطار (مسرح الحرية) لاعتقد أنهم أنجزوا خارج المؤسسة السجنية لجرأة النص والطرح، كذلك مسرحية «ضياع» التي تنقد تشتت الاحزاب وصراعاتها من خلال الشخصيات، ولسجن قفصة تجارب سابقة مع التتويج مع الاسعد حمدة وقدموا تجربة جديدة في هذه الدورة تتماهى مع فكرة النقد والحرية.
كما طرحت الأعمال المقدمة الجانب الاقتصادي من عمالة النساء إلى انتشار البطالة في مسرحية «مرايا» إنتاج السجن المدني بمرناق، كما يتم تناول المواضيع الفلسفية مثل صراع الخير والشر الذي عالجه مودعو سجن سليانة مع مؤطرهم محمد سليمة.
في الوحدات السجنية تحديدا نوادي المسرح توجد طاقات عجيبة، نصوص تكتب بجراة واداء ممثلين مقتنعين برسالتهم الابداعية، مؤطرين يؤمنون بقدرة المسرح على التغيير (احد ممثلي مسرحية «اولاد الهامش» انهى مدة العقوبة لكنه يعود الى الركح ليشارك اصدقاءه في متعة العرض)، اعمال تنتصر للانسان، وللحرية، مسرحيات تتعدد تيماتها الفنية والنقدية، اعمال تؤكد ان تونس سباقة في المجالات الفنية المناصرة للانسان.
برج الرومي التجربة الحدث لها جمهور قار
السجن المدني ببرج الرومي، السجن الذي احتضن أحلام الشباب من الطلبة الحالمين في فترة الحكم البورقيبي، سجن الرومي بين سنوات السبعينات واليوم، لازال الاسم «برج الرومي» عنوانا لمكان بعيد وقاس إذ يوجد في مرتفع في جهة الناظور ببنزرت، «برج الرومي» اليوم اصبح له جمهوره الذي يقبل ليشاهد الأعمال، برج الرومي كان أول السجون التي خرجت بأعمالها الى المسرح في العام 2017 بعمل «وجيعة» اخراج محمد امين الزواوي، ومنذ ذلك العرض المبهر أصبح لبرج الرومي نادي مسرح يقدم أعمالا متكاملة من حيث النص وطريقة التقديم والديكور، واصبح لبرج الرومي جمهوره الوفي و«التجربة الاخيرة» كانن أكثر العروض حضورا جماهيريا.
في الدورة الاخيرة لفقرة مسرح الحرية شارك نادي المسرح بسجن برج الرومي بعرض «زنزانة» وقد تسلم مشعل التاطير محمد بركاتي عن امين الزواوي واهدي العرض لروحي زينب فرحات ولينا بن مهنى، العرض قال عنه المسرحي توفيق الجبالي «عرض متكامل ومحترف»، زنزانة اسم العرض يفكك ميكانيزم الحلم، وتحصل على الجائزة الاولى وقد رحل معه الممثلون الى عالم الخيال وصنعوا احلامهم بطريقة مختلفة، وما يميز نادي المسرح ببرج الرومي المودع «س» كاتب النصوص للعام الثالث إذ كتب نصوص الاعمال المشاركة وللمرة الثالثة يتحصل النادي على جائزة، نصوص «س» مميزة ومختلفة يفكك الحلم ويبدع في الكتابة عنه، لغة سليمة وشاعرية في الكتابة تشد انتباه الجمهور، «س» في نادي المسرح بسجن برج الرومي أصبح له جمهور يقبل لينصت الى براعة النص ويتعرّف عن قرب عن تفكيكه للحلم وجمالياته بطريقة مبهرة وللعام الخامس ينجح نادي المسرح ببرج الرومي في كسب ثقة الجمهور.
سجن منوبة: أمل البجاوي طفلة حالمة
تتواصل الرحلة الابداعية لامل البجاوي مع نزيلات السجن المدني بمنوبة، تتواصل الحلمة الجميلة التي تخوضها البجاوي مع «نسوة شامخات، نسوة من نار» كما تصفهنّ، في ايام قرطاج المسرحية شاركت البجاوي بعمل «المانعة» هي صراع السلطة والحياة، صراع ازلي على المنصب يستباح فيه الجسد والفكرة والارض فقط للحصول على الكرسي، «المانعة» صراع لاجل البقاء والنفوذ قدمته نزيلات سجن منوبة وتميزن امام جمهور ايام قرطاج المسرحية.
«المانعة» مسرحية جمعت بين التمثيل والرقص «شطحات المولوية» والغناء المباشر، موسيقاه البندير والة الدف في مرافقة موسيقية لسمير بن فرج، جميع الممثلات باللون الابيض لون السلم والانعتاق من كل القيود مع حزام احمر حمرة الدم والموت والصراع، المانعة صوت النسوة ابدعت البجاوي في ايصاله بطريقة فنية تتماهى فيها شطحات الممثلات مع صرخات ارواحهن المتناسقة مع النص.
تجربة امل البجاوي تتواصل مع المانعة في سجن منوبة، طفلة حالمة صنعت الفرجة والمشهدية على الركح واتقنت عملها المسرحي لتكون الفرجة متجانسة تجمع جلّ الفنون.
هدى اللموشي وعفاف الانداري: نساء كما الامل يضئن الدروب المظلمة
نساء بلادي نساء ونصف هكذا صدح الصغير اولاد احمد، نساء بلادي قادرات على العمل واكتساح كل الفضاءات المغلقة بما فيها السجون الرجالية، للعام الثاني يقدمن تجربة مسرحية مختلفة، تجربة جريئة يقع فيها الانصات الى أحاديث المودعين معهم عالمهم المسرحي، هنّ الحالمات وصانعات الفرجة وباعثات الأمل، عفاف الانداري وهدى اللموشي لكل منهما طريقتها في تقديم العرض المسرحي، الاولى تناديهم «اصحابي» والثانية «اولادي» وكلتاهما نجحت في الدخول الى السجون الرجالية والتعامل مع المودعين واستنطاق الجدران لكتابة اعمال مسرحية مميزة.
عفاف الانداري انتصرت لحقوق الانسان وانصتت لهم ليقدموا عرض «اولاد الهامش» العرض الذي جمع الموسيقى والرقص وانطلق من اغاني الراب «فن الهامش والمهمشين» واعطت الكلمة لابناء الهامش ليتحدثوا عن وجعهم واحلامهم، الانداري تركت المساحة كاملة ليكتبوا نصهم فكان العمل جريئا وصادقا يعبر عن وجيعة الالاف من التونسيين ممن تستعملهم السلطة كاوراق انتخابية ثم تتناسى احلامهم وتوغل في تهميشهم.
التجربة الثانية لهدى اللموشي تواصل نحتها بكل الحب، تجربة العلاج بالدراما والفنون التي تختص فيها، هدى اللموشي تخوض تجربة في السجن المدني برج العامري وقدموا مسرحية «خرّف» والجميل تقمص الرجال لشخصيات نسائية فسرقت الضحكة و الدمعة من الحضور، «خرف» مسرحية تعري قبل الواقع في علاقة الرجل بالمراة، عمل ينتصر للمراة ذاك الكيان الجميل، تضع نضالاتها حتى البسيطة أمام الملإ وتجعل ممثليها ينتصرون لها لتفاصيلها الصغيرة فالمراة في النهاية هي الوطن الذي يجمعنا والاوطان لا تهان كما تقول المسرحية.
عفاف الانداري وهدى اللموشي نسوة «كاسحات»، فنانات شامخات كلتاهما اعتمدت المسرح كفضاء للتعبير الحرّ وكلتهامها نجحت في صناعة فرجة تنتصر للحرية، للامل وللانسان.
اعتماد الجماليات في الفرجة:
تجربة المسرح داخل المؤسسات السجنية تجربة تنتصر للفرجة والجماليات، في العروض المشاركة يحضر الديكور والموسيقى والاضاءة، الديكور عادة يكون من صناعة المودعين في نفس الوحدة في الورشات الموجودة داخل المؤسسة السجنية، في الدورة الأخيرة كان ديكور مسرحية «ثقافوت» للعيدي بن فرج تقدين نزلاء المرناقية جمالايتها، الديكور يحمل المتفرج الى المقهى بكل تفاصيله من الطاولة إلى الصور المرسومة باليد الى الفناجين و الكؤوس الى الراديو ديكور يتماهى مع العرض، كذلك الموسيقى والاغاني المقدمة تنسجم مع الطرح الفني والنص المقدم على الركح وتحصل العمل على الجائزة الثالثة ضمن مسابقة مسرح الحرية.
عمل آخر تميز بإتقان صناعة الديكور والتجانس بين الفرجة والأداء هو «مرايا» للسجن المدني بقبلي تاطير جلال عبيد، «مرايا» كامل الديكور صنعه نزيل بالوحدة السجنية من سعف النخيل، دقة في الصنع وإتقان لكل عناصر الفرجة قدمت في ايام قرطاج المسرحية.
مسرح الحرية بارقة ضوء تنبعث من وسط الوحدات السجنية، فيروس المسرح ينتشر سريعا ليتحول المودع من مستهلك للفعل المسرحي الى منتج له، تجربة انسانية وابداعية عميقة تستحق ان تخرج خارج اسوار السجون وتقدم في القاعات والمهرجات، عروض محترمة فنيا وابداعيا هي عنوان للاجتهاد والبحث عن جماليات متجددة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115