متجاوزا الدين والعادات والتقاليد جميعها مفكرا فقط في نومتك النهائية في فضاء انت الذي يختاره؟ هل فكرت مثلا ان ترمى جثتك في البحر كما عروس البحر او ان تحرق وينثر رمادك فوق رؤوس الجبال علّك تزهر مثل عباد الشمس؟ ربما لم تخامرك الفكرة.
لكن ماذا لو قرر شخص ان يختار مثواه الاخير؟ وقرر ان يخطط لجنازته كما يريد بعيدا عن العادات والموروث؟ كما اختارت «نجاة» نهايتها وكما طرحت اسمهان لحمر اسئلة عن الموت والحرية في اختيار النهاية في فيلمها الجديد «ماشية لجهنّم».
ماذا لو قررت عدم دفنك واخترت نهاية اخرى؟
السينما تتجاوز الحدود، تحطم السائد وتصنع واقعا اخر منشودا، تستطيع الكاميرا ان تغوص في كل الممنوعات وتصنع منها فيلما يمتع الجمهور ويعرّي المسكووت عنه، طرح فلسفي بسيط لموضوع يومي هو الموت.بطريقة بحثية تطرح اسمهان لحمر في فيلمها الاخير فكرة التعامل مع الموت؟ وتطرح سؤال ماذا لو قرر الشخص اختيار قبره وجنازته؟ هل يمكن للإنسان ان يقرر مثواه الاخير متجاوزا العادات والتقاليد والدين والحلال والحرام في مجتمع مسلم يرفض مجرد التفكير في هذا الموضوع.
تختار المخرجة في فيلمها شخصية «نجاة» (اسمهان الاحمر) التي يخبرها طبيبها في فرنسا ان نهايتها وشيكة بعد ان انتشر المرض في كامل جسدها، تقرر العودة الى بلادها تونس وتصدم الجميع برغبتها في عدم دفنها، نجاة تعشق البحر منذ الطفولة، تحلم ان تكون عروس بحر وتختار ان تكون نهاية جسدها في البحر، تخبر الاصدقاء والمقربين بوضعها في صندوق ازرق بلون السماء ومعها عطرها المفضل وتلبس ذيل عروس البحر وترمى في عمق الماء هكذا حلمت وهكذا ارادت، طلب احدث بلبلة بين الاصدقاء والعائلة «رميت علينا قنبلة» ذاك كان تعليق اكثر الصديقات ايمانا بالحرية.
تضع اسمهان الاحمر العديد من الاسئلة الوجودية امام المتفرج، تكشف في قدرة الانسان على الخوف من المخلوق قبل الخالق، فنجاة حين تقرر اختيار قبرها الاخير يسالها الزوج «هل غيرت ديانتك» و تسالها الصديقة «لكننا في بلد مسلم» و يسال اخر «ماذا عن العائلة» وكأننا بالمخرجة تحاول تفيك شيفرات توارثتها المجتمعات والاجيال منذ القديم، شيفرات لمواضيع يمنع الخوض فيها او الاشارة اليها فالنهاية بعد موت الجسد قبر وشاهد وجنازة وبكاء هكذا يجمع الكلّ لكن نجاة تختار التمرد على الموجود وتجبر الجميع ليحققوا امنيتها الاخيرة، واثناء التحضير للجنازة تتناول الكاميرا العديد من القضايا الاخرى وتحاول تقديمها من خلال الجمل والشخصيات.
«ماشية لجهنم» فيلم يستفز ذهن المتفرج، يجبره على التفكير قد يضعه امام امنياته المخفية، فيلم يكشف عن زيف البعض امام العادات والتقاليد المتوارثة، ثورة على السائد والموجود الديني والمجتمعي والمتوارث، بحث فلسفي من خلال السينما في قضية الموت والحرية الفردية في اختيار النهاية ومستقر الجسد بعد موته.
في الفيلم تتبع الكاميرا نجاة اثناء تحضيرها لعرسها «موتها» فالبطلة تريد «موت بالزازة» التابوت ازرق كانه ولد من جوف الماء، الموسيقى فرقة تونسية تعزف المالوف والموروث التونسي، اللباس موشى بالالوان الزاهية (لباس عروس البحر بالازرق والبنفسجي والوان جميلة) و
المرطبات والحلويات وكل مراسم الفرح والزينة والامل تريدها في جنازتها، شخصية متمردة تريد ان تتمتع بحريتها الفردية، ثائرة على المنظومة لم ترهب دعوات الاخت بالعذاب وجهنم، لم تستسلم لدموع الام والدعوة «ربي يهديك» ولا اراء الاصدقاء فقط تريد ان تعيش حريتها في اختيار نهاية لجسدها،وطيلة الفيلم يكون الصراع المخفي بين الموجود والمنشودن صراع الحياة والموت، صراع الحلال والحرام، بحث فلسفي لقضايا الحرية بين مفهومها الجمعي والفردي بطريقة سينمائية وصورة جميلة تشدّ الانتباه.
السينما حرية ودفاع عن الحريات الفردية
تطرح السينما العديد من المواضيع المسكوت عنها، وبالكاميرا تحاول اسمهان الاحمر الدخول الى كل الممنوعات والمحرمات وتقديمها على الشاشة الكبرى، مخرجة منحازة للنساء، نسوية ومدافعة عن حقوقهن، في فيلمها الاخير قرابة 80 ٪ من طاقم العمل نسائي واغلبهنّ لسن مختصات في السينما انما يسكنهنّ الشغف بهذا الفنّ فقررت المخرجة تشريكهنّ بعد العديد من الورشات في حلمها الروائي الطويل «ماشية لجهنم».
اسم الفيلم صادم ففي المعتقد الجمعي تعد جهنّم مكانا سيئا تسوده النيران والخوف «الى جهنم وبئس المصير» لكن الجنة هي المأمول والمنشود ، لكن تعامل المخرجة والشخصية الرئيسية عن «جهنم» كمكان وليس كنهاية للشخص، فلكل جنته التي يريدها، جنته التي يصورها بنفسه ويختارها، إذا كان «قاع البحر» جهنم بالنسبة للنجاة فهي تريده وبالكاميرا.
تطرح المخرجة في فيلمها العديد من القضايا بالاضافة الى حرية الفرد في اختيار قبره وطريقة موته والمكان كما، تطرح موضوع «المثلية الجنسية» وما يعانيه المثليون من عنف مجتمعي إلى درجة رفض الام لابنها «ستجلب لك امك شيخ كما جلبته لي وتدعو لك بالهداية كما سبق وان دعت لي لاعتقادها انني مريض وابنها يحب الرجال) كما تطرح أيضا العلاقة المتصدعة بين الاخوة بسبب الدين فالاخت الكبرى (رانية الجديدي)توغل في الايمان إلى حد التطرف «ترفض اختلاف اخوتها بسبب ضعف ايمانهم حسب وجهة نظرها) وقد تميزت الممثلة واتقنت الشخصية.
«ماشية لجهنم» فيلم يسلط المجهر على قضايا الحرية الفردية والجماعية، يناقش الكثير من المواضيع المسكوت عنها، فيلم ينحاز للانسان واختياراته الذاتية ويضع مساحة من الحرية للانسان، فيلم يدافع عن المراة ويسلط الضوء على شجاعتها في اصعب المواقف واكثرها ظلمة، «ماشية لجهنم» صرخة اخرى للحرية ربما هو فيلم مستفزّ ومشاكس لكنه ينتصر فقط للحرية.
فاطمة بن سعيدان.. حضور كما «نكتة العسل»
ممثلة تعجز الكلمات عن توصيفها، مبدعة امام الكاميرا تسرق من الجمهور الضحكة وسط الكثير من الاحداث المأساوية، فاطمة بن سعيدان «نكتة العسل» في كل ادوارها وحضورها يضيف لاي فيلم او عمل تشارك به، في «ماشية لجهنم» تميزت فاطمة بن سعيدان كعادتها، تألقت لتكون نجمة في سماء الفن السابع، حضورها، طريقة الأداء، اختيار وقت الحزن والفرحة، شخصية مختلفة لكن حضور فاطمة بن سعيدان يظل مبهجا ومميزا.