والحوار يقدم البرقاوي مولوده الروائي «كازما» صوت الحقائق المطمورة والارواح المعذبة يقترب معها الكاتب الى الهامش ينصت جيدا الى احاديث جبل برقوا والكازمات الموجودة داخله، يتتبع خطى الاولين الثوار و الحاليين «الارهابيين» محاولا منح الفرصة للانسان ليبوح بما تخفيه روحه من وجعه حوله من مواطن الى ارهابي متعطش للدماء.
كازما رواية اجتماعية مغلفة بطابع سياسي، ابطالها تونسييون نعرفهم ونراهم في الشارع واليومي منهم اخذ ملامح شخصياته واضاف لها الكثير من المتعة الروائية والوصف الجميل ليستحضر معها ملامح سكان «الدشر» والقرى المترامية تحت الجبال وكيف انها لازالت تعاني من التهميش رغم تغير الانظمة من البورقيبية الىحدّ اليوم، لازال الفقر والتهميش يطال القرى المتناثرة حول الجبال.
قسوة المجتمع وظلم الدولة يصنعان الارهاب:
من دشرة الأغوار تبدأ الحكاية، قصة صالح يكتبها او يحاول كتابتها صديق الطفولة توفيق، الأول «ارهابي» باع نفسه للحركات الجهادية والثاني صحفي يشرف على اعتي الجرائد اليومية، يتتبع اخبار صديق طفولته محاولا تشكيلها وكتابتها باحثا عن الأسباب التي دفعت بالفتى صغير الجسد الى ان يصبح وحشا كاسرا يذبح ويحمل الأسلحة دون خوف «تذكرت رفيق طفولتي صالح المزاري، رفيق طفولتي وأخي من الرضاعة، يقال انه رحل إلى الجبال البعيدة، لم اصدّق في البداية ما شاع عنه، فلا احد يعرفه مثلي وما كان فيه شيء ينبئ بأنه منذور لذلك المصير، لكنني شاهدت صورته في التلفاز».
الرواية تتماهى مع الدراسات الاجتماعية والنفسية، محاولة لتفكيك شخصية صالح المزاري ومنه تفكيك شخصيات الشباب الذي استقطب في الجبال، بحث نفسي واجتماعي يقوم به الكاتب من خلال كتابات رفيق توفيق أحيانا وإعطاء الشخصية المحورية المساحة للحكي من خلال الاسترجاع أحيانا أخرى، في الرواية ينطلق البرقاوي في تفكيك شخصيته منذ الطفولة فيقدم للقارئ طفلا هادئ الطباع، يخاف الظلمة منطو على نفسه «صوّب الصبية أنظارهم نحو صالح تستنزف ما تبقى من صبره، فانهمرت دموعه حرّى تبلل كتابه دون أن يجيب عن السؤال» والخنازير البرية متفوق في دراسته، لكنه يقرر فجأة الانقطاع «اكتشفت بعد أيام انه قرر أن يترك المدرسة نهائيا، وافقته أمه بحجة خوفها عليه».
ينقطع الطفل عن الدراسة، ينشغل بالمقام والاهتمام بالزوار، يكبر الجسد وتشيب الروح بحثا عن العمل ثم يقرر الرحيل ومغادرة الدشرة بحثا عن مورد للرزق «توجه صالح إلى ضيعة المعمر مدفوعا بما سمعه عن فرص الشغل لدى المعمر خاصة في فصل الصيف، حزم أمره أخيرا وقرر أن يرحل، باشر العمل منذ اليوم الأول» تتواصل رحلة صالح «لقد صار قادرا على تحمل مشاق المرمة، لن يكون مضطرا للبحث طويلا، فالحضائر منتشرة ولن يتوقف الناس يوما عن البناء»، يوغل توفيق في توصيف حكايات صديقه، فيضعه امام خالة طماعة تعده بتزويجها ابنتها ثم تسرقه في تعب الاعوام.
من الدشرة الى السجن الى الجبل فالقبر هي رحلة الشاب صالح المزاري الذي تتحول وجهته وافكاره بعد لقاء لسيف الدين العدواني من «دوار اولاد عدوان، كنت طالبا في السنة النهائية بالمعهد العالي للمهندسين لما القى علي البوليس القبض بتهمة المشاركة في اعمال ارهابية»، في السجن يدمغج صالح البسيط ويتشبع بافكار الموت.
يهرب من دشرته الى الجبل «تمتم قسما بالوفاء، واحتضن الكلاشينكوف بيسراه وكعبها بين قدميه، ها قد صرت ابا ايوب، الان صار لدى ابنك سلاح حقيقي يا يما» لتكون نهاية الشخصية التقتيل والحرق والموت وبث الرعب في المواطنين واستهداف الجيش الوطني، كل المراحل التي تمر بها الشخصية يفككها البرقاوي ويقترب اكثر الى صوت الحقيقة الخفي ليصل الى حقيقة مطلقة هي اننا نحن الذين نصنع الارهابي، ظلم الخالة وجبروت المعمر وضعف التكوين جعلا صالح فريسة سهلة للاستقطاب، عدم انصات القاضي للحقيقة وانانية الاخ وتهميش الدولة حولا مواطنا انطوائيا إلى وحش قاتل، في الرواية كل الشخصيات معطّبة، جميعها مشوهة من قبل المجتمع كما قنبلة تنتظر الانفجار.
كازما صوت الهامش والمهمشين
«كازما» رواية مشحونة بالوجع، مكتوبة بالحب، اسلوب يجمع بين القصصي والروائي في منحى ابداعي فريد، طريقة التناول للاحداث والشخصيات والتشويق تشدّ انتباه القارئ ليعرف مصير الشخصيات، كل الشخصيات التي تتمحور حول قصة الشخصية الرئيسية يقدم لها الراوي الفرصة لتتحدث وينصت الى الوجع المخفي وكانه طبيب نفسي يستمع الى حكايات مرضاه، في «كازما» ينتقل الكاتب بسلاسة في الوصف بين الجبل الذي يعرفه جيدا، جبل برقو اين خبر اشجاره وكازماته والمدينة والدشرة، ينقل للقارئ التحول المجتمعي الذي عرفته القرى قبل التعاضد وبعدها ومع ظهور الاحياء الجديدة، يحمله في رحلة الذكريات من «النوالة» الى المطبخ الحديث، من اغاني الامهات ووجعهن اثناء مسك الرحى الى قطع كعربائية تبث الاغاني، كل التحولات المجتمعية يرصدها ويرصد تاثيرها على المواطن والتحول في طريقة التفكير والحياة، فلا وجود للصدفة في شخصيات صلاح البرقاوي.
«كازما» رواية او كتاب اجتماعي، بحث في التحولات الانفسية والمجتمعية، تسليط الضوء على الدشر والقرى والتهميش الذي تعيشه الى اليوم، تغير النظام السياسي، حدثت اكثر من انتخابات، هرب رئيس وانتخب اخرين لكن القرى البعيدة لازالت تعيش في معزل هي فقط اصوات للانتخابات، في الرواية ينتصر البرقاوي للهامش ويدعوا قراءه ليتمعنوا اكثر في المشهد الجغرافي والانساني لهذا الوطن الصغير وينصتوا للهامش اكثر ففيه الانسان يعاني الظلم الذي قد يدفعه الى الجبال.
في «كازما» تتحول المغاور في الجبال الى فضاء للتطهر الروحي من كل الذنوب، فصالح المزاري يهرب من الارهابيين حين يكتشف حقيقتهم ويكتشف قبح افكارهم، يعود الى جبله القريب من تالدشرة ليتطهر من اثامه ويخرج ما داخله من ظلم وسؤال، فتتحول الكازما من وكر للارهاب والدموية الى مكان للسلام الروحي المنشود.
• من الرواية:
• كان عليك ان تخاصم الرئيس اذا اردت ان يعفو عنك ا وان تشارك في عمليات ارهابية اوان تنتمي الى حزب سري، خصومتك مع خالتك وابنتها لا تعني احدا هي احقر من ان تفتح لك باب العفو، قد يسجنونك يا ولدي من اجل بيضة، لكنهم لن يجدوا حرجا من مبايعة سارق البلد ملكا».
• شيدت الحكومة الحي الجديد بالآجر والاسمنت واستبدلت بيوته مصابيح البترول بفوانيس الكهرباء، وعوض المطبخ المبلط النوالة، أصبحت البيوت مطلية مثل قبة سيدي مزار، وظهرت فوق اسطحها لواقط الارسال التلفزيوني، ودخلتها اجهزة التبريد، ماهادت تسمع في جنباتها اغان حزينة على انغام الرحى ولا صوت المنسج في ليالي الشتاء الطويلة، تخصلت النسوة نهائيا من سعير الافران».
• «روت لنا امي كيف زعزع التعاضد علاقة الدشرة بوليها، فكت الحكومة السواني والماعز، وخدمت الناس بمائتين وخمسين مليما في اليوم وزوز كليوسميد من زيت السوجا، اما الحوانت فحولوها الى شركات»
• «يطل مقام سيدي مزار في خاطري الان من أطراف الغابة المتدلية من الجبل، يحضن الدشرة الساكنة الى جناحيه، ويسهر عليها، يملأ بالايمان بيوتها المتساندجة، وسط غابة عالية من الهندي تحميها من الرياح وتصد فضول الغرباء، تغير حاله الان، وجدته امس فارغا كئيبا، اسودت جدرانه وتعرى من سقفه الا قليلا».
• «مضى ابو مصعب اشواطا في تنفيذ خطته، فضارت لهم كازمات اينما تنقلوا في انحاء الجبل، في كل واحدة منها مؤن مخزنة واسلحة وملابس وفيها عرق وامنيات وقصص وحولها الغام تحرسها وانتشرت لهم مخابئ تحت الارض لتخزين الاسلحة»
«يفكر فيما جرى وهو يغسل يديه من الدم، فلا يجد في نفسه ندما ولا شعورا بالاثم، تلك هي الحرب، رصاصة اولى ثم يختفي الوجل وتستوي الاشياء، فيصير القتل لهوا ومتعة».
كتاب الأحد: رواية «كازما» لصلاح البرقاوي: أنقذوا أبناءكم وعلموهم الإنسانية قبل أن يسرقهم وباء «الإرهاب»
- بقلم مفيدة خليل
- 10:27 01/11/2021
- 1481 عدد المشاهدات
مزيج من الواقعية والخيال يتفنن الكاتب صلاح البرقاوي في تمريره الى القارئ، باسلوب روائي بسيط يجمع بين الاستحضار والقص