فيلم «في بلاد العم سالم» لسليم بلهيبة: السينما تختصر وجع التونسيين في فقدان الحلم بوطن أفضل

نحتاج إلى السينما لنحلم ونكتشف ذواتنا، نحتاج إلى السينما لنرى أحلامنا تتبدد أمامنا ونشاهد تلابيب الأمل تتلاشى في وطن ظننا انه الأجمل واعتقدنا

أن الثورة ستنتصر للحالمين، لكنها خيبت آمال الكثيرين، زادت الفقراء فقرا ورسمت البؤس على وجوه الحالمين وسرقت الكثير من الآمال واستفادت منها فئة ضالة لا علاقة لها بالوطن والحلم.

هكذا يمكن تلخيص فيلم «في بلاد العام سالم» للمخرج سليم بلهيبة، الذي حاز على جائزتي الجمهور في كل من مهرجان الفيلم الافريقي ببلجيكيا والمهرجان الدولي لسينما المؤلف بالعاصمة المغربية وكان حاضرا في المهرجان السينمائي الدولي «رؤى من افريقيا» في مونريال ومهرجان «الفيلم العربي بترونتو» ومهرجان «الفيلم القصير باليونان» ومهرجان «تيرانا السينمائي الدولي» في البانيا ثم تحصل على جائزة ثالثة في مهرجان «بسكرة للفيلم القصير» في ايطاليا ويشارك في المسابقة الرسمية للافلام الروائية القصيرة ضمن فعاليات الدورة الحالية لايام قرطاج السينمائية.

من العدم تولد الاحلام
«في بلاد العم سالم» فيلم مكتوب بالوجع، فيلم يكشف قبح الواقع وأكاذيب السلطة والسياسيين منذ اعوام، تنطلق أحداث الفيلم من مدرسة «عين الرقاد» من منطقة مرناق ولاية بن عروس، بضعة كيلومترات من العاصمة توجد مدرسة ابتدائية جدرانها مشققة، بلور نوافذها محطم وهي غارقة في لون ابيض احالته شمس الصيف الى اصفر مزعج، المدرسة غير البعيدة عن العاصمة نبض البلاد ورمز سيادتها بتلك الوضعية المزرية، فكيف حال المدارس الابتدائية في العمق التونسي.

رجل أسمر اللون كتبت السنون اثارها على شعره فغزاه الشيب (شريف المبروكي)، لاوجود للكلام في بداية الفيلم فقط الرياح تصنع سيمفونية تتشابه مع غضب داخلي يسكن حارس المدرسة من واقع مدرسته التي يحرسها كما يحمي بيته الوحيد، مهمة الحارس تتجاوز الحراسة ليصبح باعثا للامل في المكان، في النصف الاول من الفيلم تلاحقه الكاميرا وهو يبعث الحياة في الجدران المنسية يعيد طلاءها فينثر اللون على الوجه والحائط وكأننا بالكاميرا تؤكد الصلة الوثقى بين الحارس والمدرسة، يحاول اصلاح شقوق النوافذ وبلورها ويسقي تربة عطشى ودافة، العم سالم يعمل كخلية نحل يحاول اصلاح المدرسة قبل العودة المدرسية، يزرع الحياة اينما توجه، هو انموذج عن الكثير من التونسيين الذين اقبلوا على اعمالهم بشغف بعد الثورة تقودهم عزيمة الثوار ويصنعون من الحلم مركبا تواجه رياح الخوف.

حين تصبح الكاميرا صوت التونسيين
يتحول نسق الاحداث في الدقيقة السابعة تقريبا، حين يرفع العم سالم ناظريه ليجد الراية الوطنية التي تتوسط المدرسة ممزقة، ذهبت حمرتها ومالت الى الشحوب فقرر الذهاب الى المدينة، تتابعه الكاميرا منذ لحظة احتساء القهوة الى تجواله في ربوع المدينة العتيقة تحديدا في نهج الباشا حيث اقتنى علما جديدا، حمرته قانية نجمته بيضاء ناصعة وكانه اعلان لحلم جديد، يخرج العم سالم ليجد نفسه وسط شباب هارب من الشرطة وهو يهتف «اوفياء، اوفياء لدماء الشهداء» حينها يحاول الجري هو الاخر ليقبض عليه ويحاكم فنسمع صوت القاضي مرتفعا «قرّرت المحكمة بعد المداولة السجن لمدة 15 يوما مع النفاذ العاجل، وخطية مالية قدرها 150 دينارا لكل الأسماء التالية ذكرها» وذلك نتيجة لما نسب إليهم من إحداث للشغب والإخلال بالأمن العام.
يسجن العم سالم لانه وجد في الوقت الخطإ في المكان الخطئ، تسلب حريته وتسرق اماله كحال الكثير من التونسيين، الذين رسموا أحلاما عن الثورة والتغييرات التي قد تعرفها البلاد ليجدوا احلامهم تنقشع تدريجيا ويتحول بعضها الى كوابيس، تنتهي العقوبة فنشاهد الرجل يسير بخطى جد ثقيلة، وكانه يحمل هموم الوطن على كتفيه، يفتح الباب الحديدي للتلاميذ فيدخلون هاتفين مرحين، يطلب منه احد المعلمين الاسراع فيجيبه بكلمة نابية كتعبيرة عن غضب داخلي او هي صورة الوطن كما أصبح يراه.

يتحلقون حول العلم يهتفون بالنشيد الوطني لتركز الكاميرا على ذاك العلم المرفرف ممزقا شاحبا كوجوه الحالمين فيه، النهاية مؤلمة يكاد العلم يتكلم من خلف الكاميرا كانها تعبيرة عن صرخة مكتومة فنحن امام وطن يرفض أبناؤها التغيير، يريدونه منهكا ممزقا ولا يريدون بلدا جديدا وجميلا، العلم الممزق احالة الى تونس بعد 14جانفي التي اصبحت منقسمة بين وطنيين انسحبوا لشعورهم بالخيبة، وثورجيين سرقوا الساحات واصبحوا رموزا للنضال ومتكالبين على الشهرة والسلطة استطاعوا الصعود ووطنيون خيروا الانسحاب.
«في بلاد العم سالم» تنقل الكاميرا التفاصيل الصغيرة، تستنطق كاميرا سليم بلهيبة الوجوه الصامتة والجدران المنسية تتبع خطوات الحالمين بوطن افضل والمتمسكين بمسار الثورة التونسية التي غدر بها أبناؤها، في الفيلم يكون الصمت سيد الكلمات هو التعبيرة الأقرب الى القلب والعقل، تنقل الكاميرا شحوب الوجه وبؤس الأمكنة تكتفي بالتلميح وتترك للمتفرج حرية اعمال عقله والتفكير، في فيلمه ينتصر سليم بلهيبة الى اوجاع الكادحين واحلام البسطاء عبر الكاميرا، يكون صوتهم المكتوم واحلامهم المؤجلة يجمعها في فيلم كتب بالوجع على حال تونس في العشرية الأخيرة.

الصدق تيمة نجاح سليم بلهيبة
هادئ الطباع قليل الكلمات يعمل بصمت هكذا يمكن توصيف المخرج سليم بلهيبة، مخرج فيلم «في بلاد العم سالم» هو فيلمه الروائي الاول ونجاحه لم يأتي من الفراغ فالمخرج يعتمد الصدق كتيمة اثناء العمل، يقبل على عمله بشغف واهتمامه بالمدارس الابتدائية ورجع صدى ابتسامات الاطفال الموجودة داخل الفيلم تجربة يعايشها بلهيبة منذ اعوام، وفي الفترة الاخيرة تنقل بلهيبة ضمن فعاليات circuit théâtre بسليانة بين المدارس الريفية حاملا الكاميرا سلاحا، ليوثق للمهرجان بصفته «صديق المهرجان»، فنان صادق وملتزم بالوقت يقوم بعملية التصوير والمونتاج في اليوم ذاته لتقديم فيديوهات قصيرة بتقنيات عالمية عن التظاهرة، فنان يؤمن ان بقدرة السينما التغيير، هو مخرج يسير بخطى هادئة على سلم النجاح وصدقه وسيلته ليبدع ويصنع اختلافه.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115