و «جويف» ولدت «الروبة» مسرحية تسلط الضوء على سلكي المحاماة والقضاء وتحاول ان تشرح بعض ظواهر الانتهازية والفساد الموجود في كليهما من خلال المسرح، تلك التعبيرة الفريدة و المشاكسة.
«الروبة» انتاج مركز الفنون الركحية والدرامية بالقيروان، لبنة اخرى للنقد والخوض في المسكوت عنه نص واخراج حمادي الوهايبي وتمثيل كل من نور الدين الهمامي وشوقي خوجة وسامية بوقرة وعواطف العبيدي وخلود بديدة ولطفي مساهلي وتقني اضاءة غسان جاوحده.
على الركح تطلق الصرخة ضد ملفات الفساد
بين الظاهر والباطن بون شاسع، بين ما نشاهده أمامنا من خطب عصماء وشعارات رنانة وبين الحقيقة المخيفة سنوات ضوئية من الانتهازية، الى عالم مغلق ومهيب يحمل حمادي الوهايبي جمهور المسرح في عمل محفوف بشوك النقد وتعرية العديد من الحقائق وملفات الفساد إذ على الركح يصبح الكلام مباحا وتتحول الشبهات الى حقائق يتشارك فيها الممثل والجمهور..
«الروبة» هو اسم المسرحية، هي تلك العباءة السوداء التي تميز سلكي المحاماة والقضاء، ذاك السلك الصعب إذ بكلمة واحدة من القاضي قد تتحطم حياة إنسان بريء وبمحاضرة مكتوبة بكلمات رنانة يبرّأ اعتى المجرمين والفاسدين، في «الروبة» الجميع فاسد والكل نقيّ، الجميع مشترك في جرائم الفساد والانتهازية والكل وطني يفكر في المصلحة الوطنية وبين شبهة الفساد والبحث عن الحقيقة يوغل المخرج وكاتب النص في تعرية المسكوت عنه وتقديمه على الركح.
«الروبة» عمل مسرحي تصنع فيه أجساد الممثلين وطاقاتهم على الركح ديكور العرض، وحدها الحركات والأصوات تشكل لبنة لتخيل الفضاء الدرامي والمناخ العام للمسرحية، الموسيقى والإضاءة يحملان المتلقي إلى كهف المحكمة بعد وقوع حادث، يحدد المكان من خلال اطار ضوئي اصفر اللون مع خيالات لشبابيك صغيرة موجودة في الاعلى وكانها منفذ الهواء الوحيد، المكان مظلم ومخيف، هو فضاء الاحداث في مسرحية الروبة، المسرحية المفخخة بالنقد.
المحامي فاسد، والمقاول اكثر فسادا القاضية تواجه فساد زوجها بالصمت فهي شريكة في الفساد «الم تعرفي المقاول، زوجك(مولى بيتك) اكبر مهرب في البلاد»، المحامية ترغب بالدخول للمجلس للحصول فقط على الحصانة لتضمن تواصل ملفات الفساد داخل المحكمة وخارجها «يلزمنا نوصلو للمجلس، يلزمنا الحصانة»، المحامية ثنائية الجنسية و«الكرونيكوز» هي الأخرى تخدم أجنداتها الخاصة «زينب غشيرة، هي فقط تحلم بصعود سلم الشهرة، تريد البوز لا غير، تريد الظهور» ، الأستاذ المحاضر الذي يحبه طلبته حد التقديس هو الاخر يتمرّغ في وحل الفساد «أي انا فساد وانتهازي» وحده المجرم خريج السجن الانظف بينهم، يعرف ملفات فسادهم، لتنقلب المعادلة بين الفاسد ونظيف اليد ويكتشف الجمهور سقوط منظومة قيمية مفادها الحكم على القشور دون معرفة اسرار الجوهر،فالجميع في الروبة يشترك في الفساد مع تفاوت الدرجات.
الجميع متهمون أمام الوطن بالتقصير والتهمة: الصمت
تتصاعد الأحداث منذ بداية المسرحية، صوت لارتطام وصراخ، رائحة الدم تكاد تستنشقها من داخل القاعة، أجساد تتراكض وصراخ وبحث عن منفذ ما، امرأة تلبس «الروب» الأسود وتحمل مطرقتها بيمناها، ليتضح أنها القاضية ورئيس المحكمة تتبع احدهم بحثا عن منقذ بعد انفجار في المحكمة، تتداخل الألوان ويكون الأصفر هو المسيطر، لون يحفز الحواس لمزيد الانتباه والتركيز مع التفاصيل.
حركات الأجساد الخائفة تشبه رقصات الحياة الأخيرة، ليكتشف الجمهور أن جميع الأحداث تدور في قبو المحكمة حيث تختبئ مجموعة من المحامين بعد الانفجار، محامون وقاضية يجتمعون في إطار مكاني ضيق لتبدأ رحلة البوح بالأسرار واكتشاف ملفات الفساد الكثيرة التي يرعونها باسم مهنة المحاماة.
تلك المهنة النبيلة هي الأخرى يمتهنها الكثير من الانتهازيين واللاوطنيين، محامون لهم قوانينهم الخاصة، دينهم المال وديدنهم تطويع القانون لخدمة مصالحهم الضيقة وخدمة مصالح موكّليهم من مهربين وفاسدين، في القبو يجتمعون للضرورة، كل يلبس الروب الأسود رمز المهنة و القسم، جميعهم يريدون الخروج وأثناء رحلة البحث عن منفذ إلى الخارج تتداخل القصص وتبوح الأفواه بكل الأسرار المخفية، أسرار يستطيع الموقوف توزيعها وكأنه قاض يوزع ملفات المتهمين.
في «الروبة» يغيب الديكور وتكون حركات الممثلين في انسجام مع الاضاءة والموسيقى لتوضيح مناخات العمل، يسيطر الخوف على المكان، فالكل خائف ويريد الخروج من دائرة العتمة ورائحة الدم والموت، الموقوف يعرف مفاتيح المكان وقد خبره كثيرا بعد سنوات الايقاف والسجن ليقدم خدماته الجليلة ويحاول انقاذهم مقابل «فلوسكم وملفاتكم» عملية مقايضة بين المحبوس والقاضي، تتبادل الادوار هنا وتتغير الحقائق فتصيح القاضية «خميس ايجا احكيلي على البرد في الايقاف، احكيلي على الراغو والجوع والخوف» واثناء البحث عن وسيلة الخروج ترتفع درجات الانتهازية فكل منهم يريد الهروب لسبب خاص به دون التفكير في محاولة انقاذ جماعية، وكأننا بالوهايبي يضع اصبعه على سبب وجع التونسيين وانهيار الاقتصاد وهو الفرقة والانتهازية الفردية للوصول الى السلطة بكل السبل.
تتشابك الحقائق والتصريحات، تعرى الانانية و الانتهازية وتكون ملفات الفساد مطية للانتقال من محام الى اخر، لكل «دوسياته» فالجميع يشتركون في فكرة النهب المشروع تحت غطاء الدفاع عن موكليهم المهربين و السياسيين، في «الروبة» اصابع الاتهام تطال الجميع من المحامي الى رجل الامن الى عدل الاشهاد الى عدل التنفيذ الى الوزير الى المواطن البسيط فهو الاخر يشترك في الجرائم بصمته وعدم صدحه بالحقيقة، لنكون جميعا متهمين امام الوطن لتقصيرنا في الدفاع عنه من انياب الذئاب المتعطشة للدم والمال والخراب.