من نبض مجتمع الصيادة واهل البحر كانت الانطلاقة لانجاز عمل مسرحي ينحاز لابناء الهامش وينصت لآلامهم.
«شريدة» من اداء محمد قريع ومحمد الحجاج ومحمد خميس وتوظيب عام عمار اللجمي وإضاءة علي الباجي وملابس بسمة بوشناق وسينوغرافيا فتحي النخيلي ونص واخراج لحسام الغريبي والعمل هدية الى روح الهاشمي غشام وابناء الملح.
وجع البحارة على الركح
قابيل وهابيل حكاية لا تنتهي، بين قابيل وهابيل الأخوين لازالت الحروب الطاحنة منذ فجر الانسانية، من حكايات المهدية مع البحر والبحارة ولدت مسرحية الشريدة، «الشريدة» بما تعنيه لغة من النفي والبعد وعدم ايجاد مأوى كذلك هي اغلب سفن البحارة تشرد في البحر ليبتلعها الى جوفه مع الكثير من الاحلام المؤجلة بعودة الى حضن العائلة، الشريدة مسرحية تتشابك احداثها مع الكثير من الآلام التي عاشها ابناء المهدية في فاجعة غرق احدى مراكب الصيد، من هذه الحكاية وقصة صراع هابيل وقابيل الازلي قدمت المسرحية.
ثلاثة أجساد دون أسماء تتحرك على الركح بأسمال بالية والشباك البحرية تصنع بقية أزيائها، ثلاثة يتحركون في فلك بقايا سفينة، الشباك و الغزل والأصداف منثورة على الركح لتعطي النفس البحري والصورة المنشودة، الضوء تعبيرة عن خلجات النفس الانسانية فهو حينا احمر قان كدماء الغرقى ومرة يميل الى البنفسج والزهري كتعبيرة عن راحة نفسية قد تعيشها ارواحهم في مكان افضل واخرى ازرق يتماهى مع زرقة البحر والمضمون، الاضاءة في «الشريدة» جزء من اللعبة المسرحية والحبكة الدرامية التي كتبها حسام الغريبي بعد فجيعة المهدية في ابنائها البحارة.
نص سكن صاحبه وتلبسه كظله لعامين متتالين حتى ولد سلسا مكتوبا بالوجع ومزخرفا بالالم والخوف، فهو يطرح الاسئلة عن حال البحارة، هل البحر نعمة ام نقمة «جهنم موش في السماء جنهم في البحر» الجملة التي تفتتح العرض وتختتمه، هي مفتاح المسرحية تدعو المتفرج ليحلل شيفراتها ومعانيها كدلالة على قساوة وضع البحارة ومعاناتهم المرعبة كلما تحرك «النوّ» أو قررت الرياح أن تلهو مع البحارة وسفنهم الصغيرة فتكون نتيجتها إما كوارث بشرية وأرواح مفقودة «اش وعشرين بحار، اش وعشرين حلمة، اش وعشرين دار عزاء تفتح أبوابها بعد غرق فاطمة الزهراء» كما يقول نص المسرحية او كوارث نفسية قد تصل حد الجنون في الكثير من المرات.
تتشابك الدلالات المسرحية والمعنى واحد: انحياز إلى الهامش
بين الحكي والتمثيل يكون السياق الدرامي للمسرحية، تارة يحكون للجمهور الأحداث والأفعال وطورا يقدمون العمل بطريقته الكلاسيكية، تحضر الموسيقى لتزيد من متانة العلاقة بين المتابعين والمسرحية، الموسيقى تحمل المتفرج الى عوالم البحر، موسيقى قوية وحادة تشبه قاع البحر المظلم كثيرا، تتشابه الموسيقى مع فعل الخوف ومحاولة المقاومة التي يقدمها الممثلين البحارة على سفينتهم الغارقة، لتكون «الشريدة» نص يحكي وجع البحارة ويقدمها مسرحيا الى الجمهور.
«شريدة» قصة أخوة فرقتهم الغيرة والحسد كما قابيل وهابيل،هي حكاية غرق السفينة «فاطمة الزهراء» ومعها غرق أكثر من عشرين بحار بسبب الغيرة بين الاخوة «شكون ريس السفينة» هي وجع قابيل وهابيل الأزلي، صراع لأجل إثبات الذات على حساب المجموعة،»شريدة» صرخة نوح ضد الغدر والظلم، صرخة للبقاء ومحاولة لفرض قيم النبل والشهامة في زمن أصبحت ميزته النقمة و الانتقام، في»شريدة» يقترب الممثلين من وجع البحارة، يصفون معاناتهم وصراعاتهم الصغيرة للبقاء والكبيرة لاثبات الذات.
«شريدة» مسرحية تعبر عن هواجس المجموعة ولدت من أفكار المجتمع هي تعبيرة عن عوالم الصيادين وحكايتهم، محاولة لإنصاف أبناء الملح أولئك الذين يرمون بأنفسهم الى عرض البحر اما للاسترزاق او الهجرة غير الشرعية بحثا عن امل مفقود، هي صرخات المنهكين والحالمين نقلت على الركح بتوفير اليات السينوغرافيا والفعل المسرحي، فمسرح الوجع والخوف والأحلام المجهضة لتصل الى المتلقي.
«شريدة» عمل مسرحي من انتاج مزكز الفنون الركحية مهدى الى روح ابناء الملح الذين اقتات السمك باجسادهم واحلامهم، وهدى الى روح الرسام الهاشمي غشام الذي كتب للمسرح واحب مدينته المهدية فحولها الى اعمال تشكيلية مميزة، الهاشمي غشام مدير فرقة المهدية الذي كتب كثيرا عن احلام ابناء المدينة كرمه الغريبي بعمل مسرحي ينصت للانسان ويسمع هسيس المهمّشين ممن سكنوا البحر وقاعه في العديد من الحوادث.