دعوة للعودة بالذاكرة الى تاريخ قديم جدا في حضن اميدرة الساحرة، هنا انتشى الجمهور بموسيقى الجاز وسافر عشاق التاريخ بالة الزمن بعيدا جدا، فبين الحجارة والاعمدة المترامية قصص النوميديين والقرطاجيين و الرومان والوندال والبيزنطيين والمسلمين وكل من سكن هذا المكان منذ كانت اميدرة الى ان اصبحت ميدرة مع الفتح الاسلامي الى حيدرة اليوم.
على بعد 250كلم من الشقيقة الكبرى قرطاج انتصبت اميدرة بهية وجميلة وكانت مسارا للرومان تجمع تبسة بالجارة سفيطلة والشقيقة قرطاج، هنا على بعد 250كلم من تونس كان اللقاء في الموقع الاثري بحيدرة مع موسيقى الجاز ومالك الاخوة واصدقاؤه.
من الكاف تكون الرحلة الى الجارة القصرين تحديدا معتمدية حيدرة، الكاف، فتاجروين ثم الجردة فاولاد مسعود فسيدي حمد بن عمر، ثم القرقارة فزاوية سيدي علي بن ابراهيم فقوس النصر شامخا يعانق السماء ويغازل خيوط الشمس عشية يوم خريفي، الطريق يغري بالزيارة، لكل منطقة خصوصياتها المعمارية، من بقايا منازل الفرنسيين في «الجردة» وبقايا قطارات المينا في اولاد مسعود الى غابات الزيتون الممتدة في قرقارة فبقايا الحضارة في مدخل حيدرة حيث أصبح قوس النصر مسرحا للجاز للموسيقى وللحب.
الاضاءة جميلة، تناسق بين الزهري والازرق، نجمة خجولة تزين السماء قبل ان تظهر شقيقاتها بعد تراجع السحب تاركة للهلال الصغير الفرصة لرسم صورة ضوئية جميلة، اعمدة قوس النصر الشامخة مع بعض زينة الحجارة بدت كالهة تحرس المكان والذاكرة وتذكّر بأنه هنا كانت هناك حضارة عريقة، هذه الحجارة المترامية بقايا السابقين، هناك استحمت فينوس في الحمامات البهية، في الجهة المقابلة تجول ساتورنس اله البذر وهو يرمي بذور الحب والخصب، في تلك الكنيسة كنديدوس» ارواح من دافعوا عن اميدرة من جبروت «جوتينيانوس» الوندالي.
تزين قوس النصر رمز اميدرة والشاهد الاول على عراقتها، بالوان جميلة اصبح مسرحا مفتوحا لاحتضان ابهى النغمات، منذ القوس تمكن مشاهدة بقايا الكابيتول و القبور العملاقة وبقايا الكنائس، مع البناء العصري للمتحف ترى العلم الوطني يرفرف حذو لافتة كبرى كتب عليها «حيدرة، الحدود الجزائرية، تبسة» فأول قرية جزارئية تبعد فقط 17كلم عن مكان العرض تتلألأ اضواؤها التي تشاهد بالعين المجردة واميدرة كانت نقطة الربط بين قرطاج وتفاست «تبسة» اليوم.
للحب غنوا، للجمال عزفوا وللحياة انبعثت الموسيقى تصدح بتراتيل الصلاة لاجل الحب وعشق الموسيقى، في مكان اثري مميز ارتفعت ايقاعات الة الدرامز ثائرة صاخبة تغازل فينوس وتدعوها إلى زيارة المكان مرة اخرى، موسيقى مالك الاخوة استنهضت الارواح النائمة ودعتها لتجتمع من جديد وتعيد كتابة حاضر المدينة، فكيف باميدرة ان تصمت على التهميش والاهمال وهي سيدة الحدود ونقطة الربط بين حضارتين، اما ايقاعات ساكسوفون احمد عجابي فكانت رقيقة وهادئة تتماهى مع جمال الالهة في اجتماعا للحديث عن الخصب والماء، وصوت العين غير البعيدة مع نسمات خريفية يصنع موسيقى اخرى تنسجم مع الساكسوفون، هنا تغنجت فينوس وكتب جوبيتير قصص عشقه، هنا رقصت الالهة على موسيقى الماء لطلب الخصب والولادة وهنا غنت سوار بن سلامة بصوت يعاند الريح وصمت المكان، صوت يخترق الظلام والسكون ويصنع من النقوش الصغيرة تاج ملكي تزين به راسها، غنت بثقة وغنج في فستان ابيض يراقص الرياح كما مراقصة الالهة للمكان.
في حضن التاريخ وعبق الماضي عزف عمر الواعر ايقاعته الرقيقة على الى الة الكلافيي، انصت الى احاديث الاولين وحولها الى ايقاعالت موسيقية بصيغة عالمية تماهت مع رفيق الرحلة احمد عالم عازف الباص ليقدم ذلك للجمهور الذي اقبل بشغف على أجمل الايقاعات واغاني الجاز العالمية، لترك بصمتهم في قوس النصر بأمديرة ويكتب مالك الاخوة واصدقاؤه القليل من صلوات الحب في مدينة تزود زوارها بطاقة من الشغف والجمال فأميدرة تسحر لبك وتدعوك لمزيد البقاء واتباع خطى الاولين والانصات لحاكات الحب والحرب والشجاعة والامل في مدينة صنعت مجدها التاريخي.
بكل الصدق والحب عزف مالك الاخوة ومجموعته اشهر اغاني الجاز، عزفوا للحياة ودعوا الجمهور ليشاركهم متعتهم وانبهارهم بالمكان وتاريخه، في اميدرة انسجمت موسيقى الحاضر مع سحر الماضي فكان عرضا بطعم حلوى الاطفال، عرض موسيقي امتزجت فيه العديد من النوتات الموسيقية الصاخبة لتبعث في المكان الحياة ضمن تظاهرة سيكاجاز في دورتها السادسة.
واحياء المواقع الاثرية بادرة جميلة، فالموسيقى تصنع الحياة وتعطي للمكان قيمة مختلفة، في حضن الحجارة المترامية كان اللقاء لتبدو اميدرة كفارسة لا تعرف طعم الهزيمة، واحياء المواقع الاثرية بالموسيقى يعيد لها الروح ويعرّف الشباب على تاريخ هذا الوطن بمختلف ربوعه، فحيدرة الواقعة على الحدود الجزائرية من المناطق غير المعروفة للتونسيين، ذاك الموقع الاثري الساحر الذي يعاني من التهميش رغم قيمة المنطقة جغرافيا وامنيا واقتصاديا وتاريخيا فهي شبه منسية، إن انجاز عروض فنية في المواقع الاثرية يعرّف بالتاريخ ويكشف عن مدى حاجة التونسيين ليكتشفوا تاريخ وطنهم القديم وشواهد الزمن الباقية مثل الاثار والكابيتول وبقايا الكنائس والحمامات الرومانية الصامدة ضد كل العوامل الطبيعية في مدينة حيدرة الأثرية.
الجريصة: تراث منجمي يستحق الاهتمام
تتواصل فعاليات مهرجان «سيكاجاز» في دورة الهدف منها احياء التراث ببعديه الحضاري والمنجمي، عروض في مواقع اثرية مثل حيدرة ومكثر واتريبيدوس واخرى في مواقع منجمية للتعريف بها ونفض غبار النسيان عنها.
العرض الثالث للمهرجان كان في مدينة تغري زائرها بالبقاء طويلا، مدينة الجريصة المعروفة بمنجم الحديد، الجريصة التي يعتقد من لا يعرفها انها مجرد قرية لنكتشف انها مدينة ساحرة، معمارها الفرنسي و«القرمود» الاحمر ينعكس عليه اشعاع الشمس فيعطي لون جد مميز، الطريق الى الجريصة تكون من تاجروين، بضعة كيلومترات فمحطة المحاميد ثم مفترق صغير، إلى اليمين قلعة سنان، والى اليسار الجريصة الدهماني.
بعد 20 دقيقة تستقبلك المدينة بمجسم صغير لقاطرة الحديد، المدينة التي بناها الفرنسيون بطابع معماري مميز شاهدة على من سكن هناك من فرنسيين وايطاليين، منجم الحديد المهجور قبلة لضيوف المكان، بقايا الحديد واللون الأحمر الذي تركه الزمن جعل من المكان مبهرا، في منجم الحديد تكاد تسمع اصوات العملة التونسيين وهم يغنون اهازيجهم البدوية الجميلة، قد تسمع «ريت النجمة» الاغنية الجنوبية واحيانا قد تستشعر ايقاع شاوي جزائري فالمنجم كغيره كان فضاء اللقاء والعمل بين العملة التونسيين والمغاربة والجزائريين، الجولة كان دخل المنجم المهجور لها رائحة خاصة تكاد تشبه رائحة الدماء فكم من عامل سقط عليه «الداموس» وكم من قصة حبّ تغنى بها العملة في منجم يعود الى العام 1907.
الجريصة المدينة النموذجية التي بناها الفرنسيون، الكنيسة الشامخة والطرقات الواسعة و المنازل ذات الاسطح الحمراء، مدينة تطل على الجبل والمينة القديمة في هذا المكان المنجمي وزع «بينجامي» ايقاعاته الالكترونية، وعزف من مشروعه «سينوج» لجمهور اقبل ليعيد اكتشاف المنجم الغارق في الصمت منذ سنوات، منجم الجريصة موقع منجمي يستحق مزيد العناية، المدينة جميلة يمكن ادراجها في مسلك سياحي جبلي ومع الموسيقى تمّ تسليط الضوء على المنجم والمدينة الجاثمة على ذكرياتها وتراثها المنجمي المميز.