كتاب الأحد: «أخبار الرازي» لأيمن الدبوسي: قسوة المجتمع تدفع بالإنسان إلى حافة الجنون

ماذا لو كنا جميعنا مجانين ومرضى نفسانيين؟ هل أن الجنون نقمة ام نعمة؟ ماذا لو قررنا التخلي عن ملكة العقل والدخول الى عالم المجانين؟

كلها اسئلة يطرحها قارئ المجموعة القصصية «أخبار الرازي» لأيمن الدبوسي.

بأسلوب قصصي مشوق وطريقة مميزة في الحكي يحمل الدبوسي قراءه الى عوالم المجانين والمرضى النفسيين، اسلوب موشح بالوجع والظلمة، عبارات مترادفة مع معنى الخوف والضيم والشعور بالغثيان كلما تقدمت في قراءة الكتاب، تشعر انك مريض حقا وتحاول ان تبحث عن اي مسكّن ينسيك الم ما قرات، في «اخبار الرازي» يتفنن الكاتب في تعذيب قارئه نفسيا كما يتفنن بعض الاطباء والعائلات في تعذيب ابنائهم المرضى.

المكان واحد هو مستشفى الرازي والشخصية الاساسية ثابتة السارد (الطبيب النفسي) اما بقية الشخصيات فهي مختلفة ومتلونة تلون المجتمع التونسي، في الكتاب تلتقي مع الفلاح ومريض التوحد والمغتصبة والحالم بالنجاح وخريج السجون جميعهم عينات موجودة في المجتمع انصت الدبوسي الى بعض قصصهم وباسلوبه المختلف حولها الى كتاب مسكون بالوجع والنقد.

«اعمل في مستشفى الرازي وهذا امر سيء للغاية، هنا لا يوجد مجانين انهم آخر شيء تتوقع العثور عليه في هذا المكان، شخصيا لم اقابل منهم الا القليلين جدا، في المقابل هناك الكثير من البؤساء، هناك اناس جائعون، واناس عراة، مدمنون واخرون فارون من جحيم العمل والعائلة والزواج والجنون» هكذا ينطلق الدبوسي في الحديث عن مكان عمله ويضيف انه «المكان موحش ويبعث على الاكتئاب، وتنبعث من اقسامه رائحة تبغ محلول في البول، وان كان للمريض النفسي رائحة فتاكد انها حتما ما ينبعث من السجائر المنقوعة في البول» ويواصل القارئ تتبع المكان الموحش المسكون باناس اتهمهم المجتمع بالجنون، اناس يعانون الخوف من الاخر واخرون مفلسون، يحاول الكاتب الاقتراب من حكاياتهم ويخترع بعض الشخصيات الخيالية الادبية ليجبر القارئ على الانفعال النفسي مع الشخصبات ومع تقدم تناول الكتاب يسكنك ايمان انّ نحن من ندعي رجاحة العقل نحتاج معالجين نفسانيين اكثر من المرضى، فالمرضى علتهم واحدة بينما الاصحاء تسكنهم العديد من العلل اولها الكبرياء والغرور والتعالي على الاخرين وادعاء الكمال واتهام الاخر بالجنون والمرض ليعاد طرح السؤال من العاقل ومن المجنون؟.

في «اخبار الرازي» يتتبع المعالج النفسي الحالات المرضية ويكتشف قصص من يزورون الرازي للحصول على دواء او شهادة في الجنون او علاج ما، ليكتشف ان الفقر جنون «الرجل الاخضر كان فقيرا فقرا فاحشا، الفحش لا يمكن ان يكون الا الفقر ولونه اخضر، كان ازرق من البرد والهم، اصفر من الجوع والوهن وهذان الوغدان اذا التقيا على رجل يصيرانه اخضر اللون» والبؤس جنون وقسوة المجتمع وظلم الاسرة جنون «لقد تاكد لي ولاكثر من مرة، ان بعض المرضى لا يحتاجون ادوية ولا إلى علاج نفسي من اي نوع وإذا كان هؤلاء في الغالب لا يتكلمون كثيرا ولا يتجرؤون ان يرفعوا ابصارهم نحوك الا ليتأكدوا من انك لن تكيل لهم بصفعة، ان كل ما يحتاجوه هؤلاء سواء كانوا نسوة او مراهقين او شيوخا او اطفالا هو تسليحهم او الحاقهم بمدارس الفنون القتالية ليتعلموا كيف يدافعون عن انفسهم» .

بشاعة التونسيين في التعامل مع المختلف جنون ومتاجرة الطبيب بالدواء جنون « «لا تعلم الطبيبة ان المريض الجالس امامها يحتاج الى الباركيزول حاجتها الى الماء والغذاء، ثلاثون حبة في الشهر، او ستون لو ابتسم الحظ، يبيع نصفها ويستهلك النصف الاخر» وكم من انسان التجأ الى «الباركيزول» ليشعر انه بشر سوي ويعيش قليلا من المتعة التي يفتقدها وهو صاح، فالمجتمع ببؤسه هو الجنون بعينه.

فأسباب الجنون عديدة لكن النتيجة واحدة مجتمع يعاني انفصام بين واقعه واماله، مجتمع يعاني اكتئاب حاد بسبب الاختلاف وفكرة الرفض «كنت قد رأيت الصبايا يسقن الى الزواج كما تساق النعالج الى المسلخ، ورأيت مراهقين يفشلون وينتحرون وقد ضاقت بهم انتظارات ابائهم واحلامهم، ورأيت اطفالا يغتصبهم عمّ لهم او خال او اب، ورأيت شيوخا يعرضهم ابنائهم على الفحص الذهني ويأخذونهم امام القضاء ليثبتوا عليهم عجزا او قصورا حتى يرثوهم، ورايت الاطفال المتوحدين في توحدهم» جميع هؤلاء يلتجئون الى الطبيب النفسي عله يقدم لهم جرعة من مسكن تشعرهم انهم طبيعيون وليسوا مجانين كما ينعتهم الاخر.
في الكتاب تتغير الشخوص ومعها اسباب الامراض، يتفنن الكاتب في وصف تفاصيل شخصياته، يوغل في التدقيق ليتشارك مع القارئ جزء من تجربة حقيقية عايشها، فيلغي القارئ فكرة الاحكام المسبقة في التعامل مع الاخر، يدفعه ليقف طويلا امام مرآة نفسه ويسائلها عن تصرفاته تجاه الاخر، في الكتاب وبعد خوض تجربة مع المرضى والمقبلين على العيادات النفسية يصل الدبوسي الى نتيجة «لست مجنونا، وان كنت اودّ ان اكون كذلك، كنت المعتوه الوحيد الذي درس علم النفس ظنا منه انه سيصبح مجنونا، وها انا اليوم نفسانيّ اي على النقيض تماما من حلمي».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115