هل تكون المعادلة متساوية إنسانيا وفكريا؟ هل تتساوى موازين القوى بين الضحية والجلاد؟ وأيهم الأقدر على النسيان والتجاوز؟ من يعذبه ضميره؟ ام من تعذبه جراحه المفتوحة وهل من وجه شبه بين جراح الفرد وجراح الوطن؟ هكذا يتساءل سليم الصنهاجي في مسرحيته الجديدة «الذاكرة» التي عرضت أمس في اختتام فعاليات باردو فاست.
«الذاكرة» مسرحية عن نص «العذراء والموت» لاربيل دورفمان، اخراج وسينوغرافيا سليم الصنهاجي أداء صباح بوزويتة ورضا بوقديدة وعبد القادر بن سعيد (عوّض في عرض باردو الممثل علاء الدين ايوب بسبب حالته الصحية) وهي من انتاج شركة آرتيس للانتاج بالشراكة مع مسرح الاوبرا وبدعم من وزارة الشؤون الثقافية.
«الذاكرة» جزء من جراح التونسيين التي لم تفتح بعد
تفتح الجراح، تقرر «كنزة» فتح أبواب الذاكرة لتهوئتها وإخراج كل أنواع الخوف والالم، «كنزة» الشخصية هي تونس المثقلة بالجراح، جراح ما قبل الثورة وبعدها، «كنزة» ذنبها أنها صادقة كيوسف بين ابناء وطن ظلّام كاخوة يوسف، ذنب كنزة دفاعها عن افكارها وعدم البوح بمكان اختباء زوجها «مرتضى» المحامي اليساري والنقابي والحقوقي، «كنزة» كنخل الجريد لا تعرف معنى الانحناء الا بالموت، شخصية مركبة هي عنوان للمرأة القوية ومثيلات كنزة كثر في وطن مثخن بالجراح، الكثيرات في تونس هنّ كنزة، دفعن دموعهن والامهنّ وتم الاعتداء عليهن في اقبية الداخلية فقط لانهنّ قلن لا او كنّ قريبات لأحد المطلوبين لعدالة مشوّهة.
«كنزة» زوجة الحقوقي المطلوب للعدالة بتهم كيدية، كنزة ابنة العامل المناضل الرافض لمنظومة الفساد، كنزة اخت الرفيق الحالم بوطن يسع الجمع، كنزة ام لطالب يحلم بعدالة اجتماعية واقتصادية، الكثير من نساء ظلمن واغتصبن جسديا ونفسيا وعذّبن دون تهمة فقط لصلة قرابة برافض ما للنظام السياسي الموجود.
يقسم الركح بالإضاءة الى جزئين، جزء واضح مضاء واخر مظلم، كلاهما يوجد داخل الشخصية، الجزء المنير هو ما تحتفظ به الذاكرة من ذكريات جميلة واحلام اجلت لعدة اسباب، اما الجزء المظلم فهو لحظات التعذيب في اقبية الداخلية، هو صور شتات الذكريات داخل الرأس وصراعها للخروج الى العلن، هو الخوف والوجع والم الاغتصاب والشتات الروحي الذي عانته «كنزة» امراة ووطنا « سامحت اما ما نسيتش، سهيت اما ما نسيتش، كل شيء مدفون هنا (مشيرة الى جمجمتها) ما نجمتش ننسى، وما يلزمنيش ننسى، يلزمني اعتراف في حجم الى عشتو».
في «الذاكرة» تفتح الشخصية أبواب الذاكرة المشروخة وتحاول تجميع الصور بعد التقائها صدفة بجلاد الأمس، تضرب رأسها كثيرا في محاولة لإخراج كل الصور السوداء المخزنة داخلها، تواجهه بصور الاغتصاب وتحدثه عن التفاصيل وكيف كان يستمتع بوجع الضحايا وهو الطبيب الذي أدى القسم لحماية أرواح الناس فيجيب «نخدم في خدمتي» وهو مقيد اليدين
ويطلب من كنزة إطلاق سراحه، مشهد يحيل إلى اختلاف المنصب بين الجلاد والضحية، فالضحية تقرر ان تصبح الجلاد وتسترجع القليل من كرامتها المسروقة بإيلام جلاد الأمس الذي وجد نفسه ضحية عاجزة، فبين البياض والسواد، بين الهنا والهناك، بين الوجع ومحاولة التخلص منه تصير أحداث مسرحية مسكونة بالنقد والسؤال.
«الذاكرة» عملية نبش في الماضي لنقد الطبقة السياسية وماكينة الاستبداد و»السيستام» القائم على العنف والقتل، ومحاولة لمعالجة الوضع الراهن اي ما بعد الثورة واستحضار لما عاشته البلاد من صراعات سياسية واغتيالات ادت الى تدهور الحالة الاجتماعية والاقتصادية ايضا، فالامس اسود واليوم اشد سوادا وبينهما تتارجح ذكريات الشخصيات المسرحية للكشف عن عمق جراح الوطن وابنائه.
ديكتاتورية الأمس وانتهازية اليوم
الموسيقى تصنع اثرها في العمل المسرحي، تكون فاصلا بين المشاهد كما انها تعبر عن خلجات الشخصية وأفكارها الباطنية ومشاعرها الدفينة، من خلال الموسيقى يمكن للمتفرجج معرفة ما تخفيه الشخصية داخلها من مشاعر سواء متناقضة، الموسيقى ايضا تساعد على انقلاب الادوار بين الضحية والجلاد، اذ تصبح «كنزة «جلاد «الدكتور الترللي»، حين تتحول الضحية الى جلاد تكون النتيجة ابشع، فالجلاد يعذب باسم «النظام» او «السيستام» و»الاوامر» اما الضحية فتعذب باسم الانتقام ومحاولة رد الاعتبار واذلال الجلاد اكثر هكذا الصورة في مسرحية «الذاكرة» محاولة للكشف عن الصورة من جانبيها من خلال تقنيات الممثل وقدرتهما على التحول من حالة نفسية الى اخرى وتقنيات السينوغرافيا وتوزيع الاضاءة والكراسي المبعثرة فوق الركح كما الفوضى التي عاشتها تونس.
«الذاكرة» مسرحية تنقد المشهد السياسي قبل الثورة وبعدها، قبلها حزب واحد وجلاد واحد شرس وبعدها تنوع المشهد واختلف الجلادين، كل يجلد تحت غطاء يمثله، اول باسم الدين، يجلد قيم الحرية والديمقراطية ويسعى الى تاسيس خلافته وسلطته السياسية باسم حماية «الاسلام» والدين، واخر يجلد كل المفاهيم الاسلامية متهما اياهم بالرجعية هو الاخر الاخر يجلد الاخرين باسم «التنوير» و»البورقيبية» و»الحداثة» و»الانفتاح» واخر يدعي الاسلام المعتدل ويحاول جلد المخالفين «المغالين في اليمينية» و»المغالين في اليسارية» باسم «الحكم المعتدل» وثالث ينادي بتأميم الملح ورابع يتحدث باسم الفلاحين، و»خامس» و»سادس» وجميعها محلات لبث الفوضى والتفرقة بين التونسيين، لكل منها اهدافها السياسية والانتخابية وجميعهم يتقاسمون كعكة جميلة المظهر اسمها «تونس» فما حصل بعد الثورة لا يقل بشاعة عما قبلها في المستوى السياسي كما تقول أحداث الذاكرة.
في «الذاكرة» نقد للامس واليوم، فالأمس اسود بديكتاتورية واضحة، اما اليوم فالأسود انتشر أكثر كما انتشرت العتمة على الركح وانتشر معها الظلم الاجتماعي والفساد المالي والسياسي وتعددت السرقات دون حسيب او رقيب، اليوم أصبحت للمهريبن سلطتهم وللفاسدين سطوتهم وكلّ يريد لنفسه المزيد من ثروات البلاد امام تفقير شعبها وتخويفه وتجويعه في الكثير من المرات، على الركح يقع الكشف خبايا السياسة ودهاليزها المظلمة، يححاولون كشف الاسرار للمتفرج ودفعه للسؤال والثورة على السائد واعادة بناء دولة تحقق العدل والمساواة فالمسرح كان ولازال صوت الحالمين بوطن يسع الجميع.