أولى انتاجات مركز الفنون الركحية بتوزر: مسرحية «18اكتوبر» إخراج عبد الواحد مبروك: المثلية السياسية والصراع الحزبي عنوان المرحلة

الوطن صفقة، الحب صفقة والوطنية صفقة مشبوهة احيانا، من عالم السياسة ولد نص مسرحي ناقد مشحون بطاقة من الغضب

والرفض وقدمه ممثلون اتقنوا الشخصيات ونجحوا في ايصال رسائلها المشفرة، «المثلية السياسية» هي موضوع العمل المسرحي الاول لمركز الفنون الركحية بتوزر.
«18اكتوبر» هو عنوان المسرحية نص بوكثير دومة واخراج عبد الواحد مبروك وتمثيل محمد قعلول وعبد العزيز قزي وبلقيس جوادي ومرافقة كوريغرافية عبد العزيز التواتي وتوظيب اضاءة لصالح حلوة وموسيقى رامي عكة وتوظيب ركحيوسف النعماني .
الترميز بغاية النقد
18اكتوبر2005 للتاريخ رمزيته في الجمهورية التونسية هو تاريخ اشهر اضراب جوع وشعاره «الجوع ولا الخضوع» ووحد اطياف سياسية مختلفة وانتهى الاتضراب بالوحدة بين الاسلاميين واليساريين في المطالبة بقيم الحرية والعدالة، هذا التاريخ الذي تحتفل به الساحة السياسية التونسية اختاره كاتب نص المسرحية ليكون عنوانا للفرقة، فبعد الثورة ووصول الاسلاميين الى الحكم اصبح تبادل التهم بين الطرفين كما «الملح ما يغيب على طعام» وأصبح الاسلاميون يتهمون اليساريين بالإلحاد وإبعاد التونسيين عن دينهم وأصبحوا المتحدثون باسم الله وممثليه في الارض والطرف الاخر لم يقصّر هو الاخر فرمى مخالفيه الايديولوجيين بتهم الاغتيالات والاخونة وأسلمة البلاد وإرجاعها الى غياهب الجاهلية وبين هذين المسارين المحفوفين بالشوك عاش المواطن التونسي الكثير من الصراعات، صراعات وتقسيمات بين «كافر» و»مسلم» دون الانتباه الى مصلحة الوطن.
يقسم الركح الى ثلاثة اجزاء، كلما تحرك الضوء تظهر شخصية، لكل شخصية عوالمها الخفية من خلال اللباس، الاول بلباس عصري جدّ انيق يتحرك بسرعة وكانه يلهث خلف فكرة او منصب، الثاني رجل بقميص طويل وحذاء رياضي ولحية حمراء ككثير من السلفيين والثالثة بلباس اسود نقاب يغطي كامل تفاصيل الجسد، تتحرك الاجساد مضطربة خائفة، حركات متسارعة وكانها تخفي حقيقة ما، ترافقهم موسيقى من التراث الشعبي الجريدي، موال حزين يتماهى مع وقع الاقدام على الركح التي تصنع موسيقاها هي الاخرى وبعد ثلاث دقائق يضاء كامل الركح ويسلط اكثر على الوجوه ليقرأ المتفرج ملامح وتفاصيل كل شخصية.
هم ثلاث شخصيات، عمار النفطي محامي ينتمي الى اليسار الراديكالي، تنكر له رفاق الامس وأصبح منبوذا يحلم بالسفر الى اوروبا وافتتاح مكتب محاماة وتحقيق النجاح هناك، وصديقه القديم العروسي ينتمي الى التيار الاسلامي المتطرف، العروسي بسيط التفكير يدافع عن اسلامه وما يقوله الشيوخ دون محاولة لاعمال العقل يعيش حياة صعبة بعد تنكر اخوة الامس حكام اليوم (لافكاره التدميرية)، عمار والعروسي تجمعهما علاقة صداقة قوية، وكلاهما يحلم بالهجرة والسبيل هو تقديم مطلب لجوء بكذبة «المثلية» للحصول على التاشيرة واللجوء الى احدى الدول التي تحترم الحريات الفردية، كذبة وقعها موجع على العروسي لأنها تمس من دينه وانتمائه لكنه يحاول التأقلم معها والتماهي مع عمار في فكرته بغاية الحصول على التاشيرة، وتبدأ الجلسات والتحضيرات لما سيقولانه في جلسة 18اكتوبر والتقرّب والتودّد الجسدي لتصدق اللجنة مثليّتهما.
العروسي وعمار هم جزء من المشهد السياسي التونسي، افكارهما توجد في الواقع هي محاولة لتجسيد القليل من دناسة السياسة وتلوث المشهد السياسي التونسي والتناحر لأجل مصلحة الحزب والشخص دون التفكير في مصلحة المواطن والوطن، المثلية التي يرفضها البعض من الشعب هي نفسها المثلية السياسية التي يقبلون عليها بكل شغف، والتناقض الذي يعيشه التونسي قبل الاقتراع وبعده يبدع الممثلين في تجسيده وتقديمه على الركح.
للنص سحره، نص ساخر ونقدي، نص يعري بؤس السياسة وعفنها، على الركح يجسد الممثلون شخصيات يعرفها التونسي ويعيش مع افكارها وآرائها المنتشرة في كل وسائط التواصل الاجتماعي، على الركح تجسد الانانية السياسية والانتهازية الحزبية والصراع الاوضح:يسار/يمين، كل القبح يستلهم منه الممثلون ملامح شخصياتهم، ليكون العمل كما المرآة تخجل من نفسك واختياراتك ان شاهدته، عمل مسرحي يعرّي الساسة والسياسيين يكشف جشعهم وانانيتهم على حساب الجميع.
في «18اكتوبر» تفكيك مسرحي للمشهد السياسي، نقد للمجتمع وافكاره الموغلة في التحجّر، محاولة للخوض في مواضيع تعد من التابوهات مثل المثلية و النظرة الدونية للمراة التي تعيش قصة حب خارج اطار الزواج، تفكيك للعلاقات المتشابكة في المجتمع ومحاولة للبحث عن اسباب القبح والفساد المستشري انطلاقا من الفرد ثم المجموعة.
الاضاءة لكشف اضطرابات الشخصيات
في المسرحية تكون الاضاءة وسيلة لفهم الشخصيات وتركيبتها، الاضاءة داكنة متى باحت الشخصيات بأسرارها وتصبح واضحة لحظات التعبير عن الحب، في المسرحية كل الشخصيات تخفي اسرار تعبر عنها بالرقص والحركة على الركح في تناسق مع ايقاعات موسيقية واضاءة لخدمة الجمالية الفرجوية.
العروسي وعمار يعيشان لحظاتهما الحميمية بتعلة «الكذبة» يعملان على تصديق الكذبة حتى يحصلا على تصديق اللجنة وفي كل مشهد يبوحان بما تخفيه القلوب من الم، فعمار النفطي صاحب الصولات والجولات قبل الثورة يجد نفسه منبوذا بعدها، يتركه الرفاق للفقر والنسيان بسبب الخلافات الحزبية هو انموذج عن تفكك اليسار التونسي وعجزه عن تجميع مريديه وناخبيه فمنذ انتخابات 2014 واليسار التونسي يعيش حالة من العجز امام بقية الماكينات الحزبية.
أما العروسي فيدفع ثمن صدقه، اتبع شيوخه الذين سطروا افكاره واراءه، حفظ اقوالهم كطفل صغير يردّدها، يعرف فقط التحريم دون محاولة للتفكير، شخصية بسيطة فكريا رغم الشهادة الجامعية، زيّن له حكم الاخوة والحكم باسم الدين وشريعته، اصبح بوقا دعائيا لحملاتهم الانتخابية وبعد الوصول الى الحكم ركن في رف النسيان لان افكاره متطرفة، فواجه هو الاخر وحدته ونفيه في زمن حكم اخوته وأصدقائه، اغتراب داخلي جعله يبحث عن وسيلة لمغادرة وطنه.
الشخصية الثالثة، تبدو رمزا للحكمة في بداية العمل، امراة متدينة مهتمة ببيتها وذاتها، ترتدي نقابا ككل الملتزمات، وتتقن جيدا التلاعب بكلمة «حرام» ومع تقدم الاحداث يكتشف المتفرج انّ :حليمة» شخصية تربط بين العروسي وعمار، هي زوجة العروسي الشرعية في الراهن، وحبيبة عمار في ساحات الجامعة، يسارية سابقة واسلامية حالية، تغيرت من فكر الى اخر بسبب «علاقة حب غير شرعية» ونظرة المجتمع الدونية، حليمة تجيد الرقص وتتقنه، تقدم لوحة مع حبيبها السابق تسترجع فيها نضارة الجسد وشغفه بالغناء والرقص، شخصية مركبة تجمع الكثير من المتناقضات التي تعيقها لكنها تحاول التجاوز، شخصية صنعها تناقض المجتمع، هي انموذج عن معاناة المراة في المجتمع التونسي والمصاعب الكثيرة التي عليها تجاوزها لاثبات ذاتها او السقوط في غياهب مجتمع قاس.
الشخصيات الثلاث جميعها متناقضة، جميعها تحمل جزء من العقد المجتمعية والتناقضات السياسية والانتهازية الحزبية، قدمها الممثلين باقناع.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115