«سبعة أيام ماكينات الحرب» لبرهان اليحياوي: لكل حربه وللهامشيين حروب أكثر قساوة ...

إلى من يلاحق الرغيف، فلا يدخر شيئا إلى نهاية الشهر، ذلك الذي تمرّ أمامه أساسيات العيش والكتب والأمنيات بسرعة الصوت،

فلا يقدر على كلفتها، إلى كل من لم يقدر على اقتناء هذا المخطوط، أنت كل الحكاية قبل هذا النص وبعده» هكذا هو الإهداء المكتوب أول الرواية، إلى المعدمين والمنسيين يهدي اليحياوي حروفه الموجعة في مولوده الروائي الجديد المسكون بهواجس من هم «تحت» أولئك الذين تناستهم الدولة والسلطة فأصبحوا من الهامش إنسانيا وباتوا من ماكينات الحرب.
يعيش الإنسان أحداثا متسارعة يوميا، تترك اثرها في نفسه، بعضها محزنة واخرى سعيدة، لكن تاثير الاحداث في الصحفي تكون اشد وضوحا لديه أكثر من غيره، الصحفي يلتقط الاخبار ويعيش على وقعها المتسارع، في الساعة الواحدة يعيش خبرا مفرحا واخر محزن، يتأرجح في يومه بين الامل والالم ويكون صوت الجميع الثري والفقير المعدم ومن مهنته وتجاربه اليومية والتراكم للمادة الاخبارية ولدت الرواية «سبعة ايام ماكينات الحرب» لبرهان اليحياوي الصادرة عن دار ورقة للنشر والتوزيع، الطبعة الاولى للعام 2021
الجميع يعيشون حربا يومية
«الوقت كالسيف» كما يقال والتعامل مع الوقت عند الصحفي يكون مختلفا عن غيره فللثانية تاثيرها في نقل الخبر، وانتصارا للوقت وتاكيدا لقيمته عند الصحفي تقسم احداث الرواية تقسيما زمنيا باليوم والساعة والدقيقة وكأنّ اليحياوي يحوّل تسارع احداث يومه إلى الرواية ويجعل شخوصه هي الأخرى تدور في فلك عوالم الصحافة وأخبارها وإجهادها.
«سبعة ايام ماكينات الحرب» هو عنوان الرواية، تدور احداثها في سبعة ايام، في البداية تكون الشخصيات ثمانية ركاب سيارة اجرة لواج ينطلقون من القصرين الى العاصمة «نزل ايمن الفرشيشي من التاكسي التي نقلته الى محطة النقل البرّي، توجه نحو عربة اللواج الرابضة تحت لافتة علّقت في علوّ، كتب عليها باللون الاحمر اسم العاصمة»، لتنطلق رحلتهم في الرابعة بعد الزوال، وبعد ساعتين تتعطل سيارة الاجرة ليضطر الجميع للبقاء في «الخلاء» (اهلا سيدي لقد تعرضت العربة الى عطب مفاجئ في منتصف الطريق» (صفحة26)فيستغل الكاتب العامل الزمني والجغرافي ليمهد للقارئ قصص ثلاث شخصيات بطريقة متسارعة «ثمانين صفحة» ليجد القارئ نفسه امام حروب صغيرة تعيشها الشخصيات، بطريقة مقتضبة يتحدث عن ليلى الثلاثينية الباحثة عن الحب والزواج بعد فشل عاطفي انهك روحها «كنت احببت سيئ الذكر نادر فأعطيته كل ما اشتهاه، وجازاني بزواجه من قريبته، ونشر صوري ودمّر الذكرى الجميلة في قلبي وحوّلها الى جرح غائر تنكأ يوميا، يسمني بالساقطة في مجتمع يعتبر الحب رذيلة والعطاء دعارة، رغم شغفه بهما» (صفحة16)
ثم الاشارة الى حرب اللقمة التي يعيشها سائق اللواج بعد ترحيله من المانيا فهو كاغلب الشباب يبحث عن الزواج بعجوز اروبية للحصول على التاشيرة الاقامة بعدها يبحث عن طريقة للحصول على حريته وادخار بعض الاموال لانجاز مشروع في مدينته لكن خططه فشلت وخسر حربه.
الشخصية الثالثة اخدت حيزا مهما في الرواية، قرابة اربعين صفحة لخصت اربع ساعات من الحكي، فشخصية «حمادي الجزائري» بدأ البوح في الثامنة مساء لينهي كلامه مع منتصف الليل، حدثهم عن وعورة الجبال وقساوتها، عن ظلم الحرب وانتمائه الى جبهة التحرير «مقاتل، مجاهد،مقاوم لا يخشى ازيز الرصاص، جسدي يحمل الى اليوم ندبات المعارك، بل هي اوسمة تخلّد أمجد الانتصارات» التي وحدت التونسيين والجزائريين في مقاومة المستعمر الفرنسي، تجربة حربية عسكرية أثرت في المتحدث واستطاع الكاتب وصفها ببراعة. الارهاب: كابوس يجمع الصحفي والضحية
عملا بقاعدة الهرم المقلوب تسقط من خانة الحكي قصص بعض الشخصيات ليحافظ على ثلاث حكايات رئيسية عنها انبثقت مقومات الرواية، الشخصيات الثلاث هي «ناجية» السيدة الريفية الباحثة عن علاجها في المدينة و»غازي» اللص الذي سقط في حضن الارهاب وايمن الفرشيشي الصحفي الباحث عن فرصة للنجاح خارح حدود الوطن.
سنترك لناجية مساحتها الخاصة بها، ونبحث فيما يجمع «غازي» و»ايمن» كلاهما ينتمي الى الهامش الى مدينة القصرين التي تناستها الحكومات المتعاقبة «فهذه المدينة التي نمت بسرعة في غفلة من الزمن وربما من تخطيط الدولة عبارة عن رقعة جغرافية تتشابه في سكونها الايام والليالي، مدينة صنعت التاريخ فأنهكها لتعيش ثورة لم تنته بعد وحربا على الارهاب الاسود ومسارا معبدا بدماء كثيرة» (ص11).
الاول «لصّ» يخطط لسرقة بنك حتى يوفر ثمن العملية الجراحية لوالدته، لص يرى ان سرقة الاغنياء ليست بسرقة بل هو افتكاك لحقه الطبيعي «الغريب انه كلما شعر بهشاشة، وتحرك فيه حس داخلي بالندم، اقنع نفسه بأنه لا يأخذ الا حقه من اغنياء، ترسخ يقينه بانهم سبب شقائقه وامثاله»، لصّ يجد نفسه ارهابيا بالصدفة والقوّة، فبعد التخطيط واقتحام البنك يتضح له ان رفاق اللصوصية جماعة ارهابية تسكن الجبل، وليضمن حياته يجبر على المبايعة والموالاة جهرا بينما يخطط للهرب سرا، شخصية مركبة تتارجح بين الايمان بالوطن ونكرانه، في الرواية «غازي» لم يخن وطنه ففي اول عملية ارهابية استهدفت كمين للجيش يوجه سلاحه الى «الباي» وبقية المجموعة كما يرسل مخطاطات الارهابيين الى الصحفي «لا اخفي كان هدفي المركزي في ايام الارهاب في الجبل هو الحصول على المال، لكنني اعتبر نفسي الان وانا اقترب من نهايتي الحتمية، انني ناضلت من اجل قضية عادلة، قد يكون الحب الذي دق بابي، او الوطن الذي لم أخنه» (ص216)، شخصية غازي لها نسخ كثيرة في تونس، كثيرون استقطبوا الى الارهاب اما بغاية البحث عن المال او الهروب من واقعهم الفقير، «غازي» ككثر اراد الهروب بعد اكتشاف اكذوبة «الدين، الحلال، الجهاد» لكن الموت او النحر كان نصيبه.
أما الثاني فصحفي يتتبع اخبار الارهاب ويحاول تدوينها وتحويلها الى قصص،
صحفي وجد فرصته للعمل في اشهر الجامعات الامريكية، لكن هناك عجز عن الكتابة، جفّ حبر القلم فهو تعود الاجهاد والجري خلف الاخبار ولم يتعود الركون الى الراحة، صحفيي يقتات من الاخبار المتسارعة «دوّن ما بحث عنه طويلا، الكتابة في عالمنا مقدسة كالحياة تماما، والتحبير مثل الصلاة والموت والعيد، له طقوسه وتفاصيله، ادر كان عالمه الشفاف ذاك هو مصدر الهامه الوحيد الممكن، فقرر العودة، لا منجز يمكن ان يتحقق خارج محيطه» (ص218) ليظلّ الصحفي ابدا صوت الهامش والمهمشين، صوت الحقيقة بوجعها وحزنها وفرحها ايضا.
اليهنّ كل الحبّ صانعات الحياة من العدم
هنّ قبس الحياة والنجاة، هنّ صانعات الامل ومانحات الحبّ، في روايته تكون المرأة عنوان للبهاء والقوة، المرأة في الرواية هي ناجية «الستينية هزيلة الجسد، شاحبة الوجه، تحمل وشما بربريا على جبينها وخديها» يبدو وصفها انها ضعيفة لكنها صاحبة مواقف شجاعة فهي منقذة الفريق من الخوف اثناء تعطل سيارة الاجرة، هي صاحبة فكرة اشعال النار وطهي الحلزون وايجاد وسائل بدائية لتجاوز الخوف، هي المقاومة للحصول على جرعة الدواء «في هذا البلد شقاء في النقل وعذاب في طوابير الانتظار ومصاريف لا يقدر على تحملها الا اولئك الاجلاف الذين هتك البذخ افواههم» (صفحة22).
ناجية رمز للقوة والشموخ، امراة تحول الالم الى امل، من طريق علاجها تصنع مسارها الموشى بالورود، لها القدرة على زرع الورود بدل الشوك، ناجية تونسية حرة تعلمت من ريفها الشموخ والعزة، احبت عملها المجهد في الحقول وحولت رائحة اكليل الجبل الى ترياق ابدي منه تتداوى روحها قبل جسدها، نجدها شامخة وقوية تحرض المعدمين على الثورة وتزرع في نفوس الخانعين شحنة من الغضب ليثوروا ضدّ المستثمر الذي سرق املاكهم وشيد عمارات وسمح لهم بالسكن في الطوابق السفلية «تخيلت ناجية للحظة ان عيشة السيارات في المأوى المحروس اكثر ترفا من حياة غرف تحت الارض،تتباعد السيارات عكس الاقبية التي ينام في غرفها الضيقة آلاف الناس،مجال هامشي تموت فيه الحرية والخصوصية والاستقلالية في اغلب الاحوال» (ص138).
«ناجية» عنوان للنجاة هي تلخص قوة المرأة التونسية وقدرتها على قلب الموازين، تنتصر في حروبها الصغرى والكبرى، تنتصر بفعل ارادة الحياة وحبها للجمال، ناجية تصنع ثورتها الصغيرة»كانت ناجية تقود جماهير البؤساء المنتفضين، قادتهم نحو الهدف بخطوات ثابتة كجنرال مخضرم، توجهت الجماهير نحو الهدف الكبير المعلن، العمارة التي اختار المستثمر الكبير في اعلى طوابقها مكانا لمكتبه، وامام كسر شوكته، فرضت ناجية على المستثمر اختيار مصيره بيده:حصار قد يدوم لايام واشهر، او الالتزام الكتابي بالفتح الفوري للمصاعد لابناء اقبية تحت الارض» (ص213) وانتصار ناجية الضعيفة على المستثمر بامواله وراسماليته هو انتصار للحياة امام شبح الموت، انتصار للمراة مانحة الامل والحياة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115