«قيامة الحشاشين» للهادي التيمومي الرواية الرحلة، رحلة في الزمان والمكان والأحداث والشخصيات ايضا وطريقة السرد واسلوب الحكي، رواية تكتب بأكثر من لسان وبأسلوب فانتازي واحد يسكن قارئها بالخوف ومزيد الاطلاع والرغبة في اتباع طريق السرد ليعرف النهاية؟.
أكثر من 400 صفحة تفنّن من خلالها التيمومي في تتبع الحشاشين بين الماضي والحاضر، استحضر دمويتهم ويقارعهم بالعلم والحياة، صحبهم في طريق الموت قبل ان يزرع سبل الحياة التي كانت افريقية عنوانا لها فكل الدمويين تدحرهم افريقية والإرهابيون تدفعهم تونس الصغيرة بالعلم والمعرفة لا بالدموية والقتل، والرواية صادرة عن دار مسكلياني لاستاذ وموظف بوزارة البيئة يتقن جيدا الفانتازيا التاريخية.
رحلة الدم: بين الواقع والخيال
رواية تسكنك بالسؤال؟ هل ماكتب هو الحقيقة ام من خيال الكاتب؟ هل حقا نهض الحشاشون من قبورهم ومعاقلهم وجاؤوا من الشرق ليحجوا الى افريقية بغاية استرداد ارض أجدادهم؟ هل رقائق الصبّاح حقيقية ام هي من وحي خيال الهادي التيمومي؟ هل الابلق (خنجر الصبّاح) حقيقة ام هو الآخر كناية عن سلاح اليوم؟ هل القارئ امام حقيقة موشاة بالقليل من الفانتازيا والخيال؟ ام هو الخيال يتلبّس ثوب الحقيقة؟ اسئلة كثيرة والحقيقة الثابتة هي الدموية والخوف والرعب الذي يسكن القارئ وكأنه الاستاذ حين نبش القبر « بأي قلب حجريّ جرؤت على القبر في تلك الليلة وقد تكشّفت لي لعنته طول النهار وطلع عليّ وعلى عمال الحظيرة ساكنه المرعب، أشأم من بوم الخراب،تكشّفت لعنة القبر وبدت لي روحه المظلمة كأخطبوط هائل بلغ الوخز رأسه فراح يضرب في كل اتجاه بأذرع جبارة، وبدأ العمال في حظيرة منزلي الجديد يدفعون الثمن من دمائهم ولحمهم الحيّ: ما ان جعل احدهم ثقبا في طرف القبر على غير هدى حتى هتف بصاحبه: دهليز في جوف الارض...ثم رفع الفأس ثانية لتوسيع الهوة فاهوى بها على ساقه وانفجر شلال من دمه الحار» (ص7) .
فالكاتب يضع قارءه منذ الصفحات الاولى امام رائحة الدم وشلالته، ولا يترك الفرصة لمزيد التمتع بحكايات هادئة ومنذ الصفحات الاولى يضع شخصيته الاساسية «الاستاذ» في مواجهة قبر مجهول ورقائق ملعونة وشيوخ متزمتين للدم «فجعلت من سفري الى صنعاء لحضور ندوة علمية فرصة لاستفسار شيخ دعاة الاسماعلية عن الكنز الاثري الذي وجدته» ولكنّه وجد في مأزق «اين الرقائق يا طالب حتفك؟اين تخبّئها؟ ثكلتك امك ان لم تدفعها الساعة؟ اين وجدتها،اين» وكان بالتيمومي يقرر الانتقام من قارئه فلا يترك له الفرصة ليلتقط انفاسه ويجعله هو الاخر يجري بين الدماء ويقفز فوق الجثث ويرحل بين الهنا والهناك، بين الواقع والخيال علّه يفهم سرّ الرقائق ومعها يجد حلّ لاستاذ وعالم تاريخ اراد فهم حقيقة كنزه فأصبح مطاردا من الاسماعلية يريدون الرقائق لحرقها «ذراع قوية طوقت رقبتي من الخلف، رايت شبحا اخر يسرع اليّ فياخذ بساقيّ، ...جئنا من بلد بعيد للقائك...سبق لنا اخبارك انّ الرقائق اللعينة التي بحوزتك تكشف اسرار طائفتنا وقد اوصانا الائمة منذ مئات السنين بالبحث عنها وحرقها فور الحصول عليها»(ص74-75) والباطنية يريدونها ليعرفوا محجّهم « ما ان راى الخنجر حتى ارتمى عليه بلهفة شديدة...فتهالكا عليه يلمسان الغنائم لمس المتبرّك، غمرهما فرح جنوني ووقعوا جميعا ساجدين» (ص142-144) وبين الاسماعلية والباطنية تبدئ رحلة الموت التي يخوض غمارها استاذ تاريخ تونسي يجد نفسه في حلبة صراع بين تجار الموت والدم.
تتواصل الرحلة المخيفة التي يعيشها الاستاذ بين واقعه وخياله، الاستاذ الذي اكتشف رقائق حسن الصباح بحديقة منزله صدفة، كنز اثري اراد فك شيفراته « وجدت الرّقاع على ثلاثة أصناف تعبيريّة: المتنُ وهو النّص الأوليّ الذي كتبه الدّاعية أو الإمام، ثمّ الحاشية وهي شرحٌ على المتن، كتبه أحد تلامذته أو أتباعه، أمّا الصّنف الثّالث فهو المتن لكنّه ذو اختلاف وغرابة، وهي رسوم سبعة مثل الرّموز التي كانت تُوضع قديما للإشارة إلى دفائن سريّة»(ص24)، لكنّ الرقائق تحولت الى كابوس مفزع حدّ ان اصبح الاستاذ مشروع ذبيحة تقدّم فدية الى حسين ابن حسن الصبّاح البكر وقتله بتهمة «ذا شبهة» في عيد الغدير «حسنا يا صاحبي، ان لك بشارة الاخرة وعزاء الدنيا، ستكون من رعايا الاستاذ حسين في الجنة وذبيحته في الدنيا»(ص169) ليكون فريسة الخوف والدموية ومطارد بين عصابتين عصابة البهرة التي تكره الصباح وعصابة طائفة الخوجة الباطنية النزارية التي تعتبر الصباح حجّة الامام وأساس التأويل، وبينهما يتيه القارئ ويحير فكره وتسكنه الاسئلة المشحوذة بالدم.
دموية الامس و دموية اليوم كلاهما باسم الدين
دم، شلالات منه، تقتيل، بتر، تذبيح وانتهاك للحرمة الجسدية باسم الامام والرب هي الجملة التي تختصر الرواية ومعها الطائفة الباطنية التي قامت على الدموية، فالصبّاح في مزاميره يوصي اتباعه باحياء عقيدته ونشرها وذبح كل المخالفين، يدعوهم في مزاميره الى الحج الى افريقية والهجرة الى المكان الذي يوجد به قبره ومزاميره وابلقه هجرة»كهجرة اليهود إلى فلسطين في صورة أورشليم التاريخيّة، أو غزو الصليبييّن لأرض المشرق للاستيطان في مهد المسيح. هذه هجرة مقدسة أخرى إلى أرض موعودة، هجرة أمرَت بها تعاليمُ أقدسُ عند أصحابها من التّوراة والإنجيل والقرآن».
في قيامة الحشاشين تكون الدماء سيدة الموقف والرحلة، في الرواية التي تحيل كلمة «القيامة» الى نهوض الحشاشين من مكامنهم او مخابئهم تنهض معهم دمويتهم، والتيمومي لا يكتب الفانتازيا المستقلة عن الواقع، فحشاشي حسن الصبّاح هم ارهابيي العصر الحاضر، تسكنهم نفس الدموية والرغبة في الدم والقتل باسم «الامام»،قبل قرون كان اماهم الصباح واليوم اماهم «بن لادن» و»البغدادي» وأمراء كثر يذبّحون الناس باسم الامامة وطاعة الاولياء، سلاح الامس البعيد «الخنجر الابلق» وسلاح الامس القريب رشاش وسلاح كلاشينكوف ورشوة الامس «الدراهم السلجقية والمعادن الذهبية» عوضت بالدولار الامريكي اليوم «فقد وضعنا في سيارتك حقيبة بخمسين الف دولار».
وجميع الاحداث المنسابة انسياب مياه الشلال يبدع التيمومي في سردها وترصيفها، يتقن جيدا اللعبة الفانتازية فيحمل قارئه الى قلعة الموت ليجالس الصباح ومعه صديقه شالوم بن عاموس الساحر ويمكنه استحضار «هاروت وماروت» الجنيين، ثم يعود به العصر الراهن فيجالس استاذ التاريخ وصراعه والشرطة والعصابات، يتقن التيمومي الانتقال من زمن الى اخر ويعرف جيدا كيفّ ينفث الحياة في شخصياته القريبة والسحيقة، تكاد تسمع صوت مريم بنت الصباح المغدورة وهي تطلب العفو من والدها واحيانا تستشعر وجع جمانة وهي تحكي قصة مشاركتها في ابشع عمليات القتل، ومرات تشعر ان جسدك تسكنه قشعريرة وكان هاروت وماروت سكنا الغرفة التي تأويك، خليط من الرغبة والخوف يبثها التيمومي بين صفحاته وكأنه ينبه قراءه الى خطورة الحشاشين ايا كان امامهم فتجار الدم لا فرق عندهم بين مسلم ولاديني سلاحهم المال والدم.
في الرواية شبه بين حشاشي الصبّاح وارهابيي الاسلام السياسي فكلاهما سعىة الى التموقع بطريقة دموية، كلاهما منظم كما طائر «الراكي» (الغرنوق) وفي الكتاب يقول الراوي واصفا مشهد يعرفه التونسيين «فمنزلك صار فخّا مُهلكا ومَكمَنا لأفراد عصابة الخُوجة الذين انتهزوا حالة الفوضى والانفلات الأمني فاندسّ بعضهم بين المتظاهرين حتى صاروا قادة مظاهرات، واندسّ بعضهم الآخر في صفوف الشّرطة فصاروا مخبرين يُعتدّ بهم أو قنّاصة من فوق السّطوح. إنّهم يتلوّنون بكل لون ويدفعون إلى الفوضى والاحتراب»(ص403)و»منزلك» هنا ليست للخاص بل هي تونس التي كانت ذات يوم مرتع لتجار الدين والارهابيين الحالمين بالتموقع وتطبيق شريعة السابقين، تونس التي دحرتهم بفضل العلم والثقافة وجيشها الوطني المدافع الشرس عن حصون الوطن «قصدت الثكنة اذ ما عاد لي من ثقة بغير الجيش الوطني».
رواية «قيامة الحشاشين» للهادي التيمومي: افريقية أرض العلم والحياة تدحر الدمويين منذ الأزل
- بقلم مفيدة خليل
- 12:38 21/06/2021
- 2677 عدد المشاهدات
رواية مرعبة ومربكة، شخصياتها أتقن كاتبها جيدا النفخ في روحها وتوصيفها لتبدو وكانها حقيقية تتلبّس القارئ وتفزعه،