فقرأها ودار بينه وبين أبي سفيان ـ ولا زال يومئذ مشركاً ـ حوار وحديث طويل، ظهر من خلاله معرفة هرقل وكبير قساوسته بعلامات وصفات نبي آخر الزمان، والتي كانت متطابقة مع صفات نبينا صلى الله عليه وسلم. وقد جاء في هذا الحديث أن هرقل قال لأبي سفيان في آخر حديثه: "وسألتُك: هل يغدر؟ فذكرتَ أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك: بما يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقاً، فسيملك موضع قدمي هاتين .. وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت (تكلفت) لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه" رواه البخاري.
وفي رواية ذكرها ابن كثير في السيرة النبوية: "أن هرقل استدعى الأسقف الأكبر للرومان فدخل عليه، وكان كل الناس في الرومان يطيعون أمر هذا الأسقف الكبير، فعرض عليه هرقل الكتاب، فلما قرأ الأسقف الكتاب قال: هو والله الذي بشرنا به موسى وعيسى الذي كنا ننتظر، قال قيصر "هرقل": فما تأمرني؟ فقال الأسقف: أما أنا فإني مصدقه ومتبعه، فقال قيصر: أعرف أنه كذلك، ولكني لا أستطيع أن أفعل، وإن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم".
قال ابن حجر: "لو تفَطَّن هرقل لقوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي أرسل إليه: "أسلم تسلم"، وحمل الجزاء على عمومه في الدنيا والآخرة، لسَلِمَ لو أسْلم من كل ما يخافه، ولكن التوفيق بيد الله تعالى". فقد أسلم النجاشي ملك الحبشة ولم يزل ملكه عنه.
• سلمان الفارسي:
في قصة إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه دليل على علم النصارى بأمارات وصفات نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد ظل سلمان يبحث عن النبي الحقِّ الذي عَرف صفاته ومناقبه من أحد الرهبان في عَمُّورِيَة والذي وصف له نبي آخر هذا الزمان، وقد ذكر في كتابه "صحيح السيرة النبوية": "أنّ راهب النصارى عندما حضرته الوفاة طلب منه سلمان أن يوصيه، فقال الراهب: أي بني والله ما أعلمه بقي أحد على مثل ما كنا عليه آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبيٍّ يُبعث من الحرم، مهاجره بين حرتين إلى أرض سبخة ذات نخل، وإن فيه علامات لا تخفى، بين كتفيه خاتم النبوة، يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة فإن استطعت أن تخلص إلى تلك البلاد فافعل فإنه قد أظلك زمانه".. ثم قصَّ سلمان رضي الله عنه خبر لقائه برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإهدائه له طعاماً على أنه صدقة, فلم يأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إهدائه له طعاماً على أنه هدية فأكل منه، ثم رؤيته خاتم النبوة بين كتفيه، وإسلامه على أثر ذلك.
وَمُبَشِّراً برسولٍ يأتي مِنْ بَعْدي اسمه أحمد:
قال الله تعالى "وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ" الصف: 6، قال ابن كثير: "فعيسى عليه السلام، وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وقد قام في ملإ بني إسرائيل مبشراً بمحمد، وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي لا رسالة بعده ولا نبوة. وما أحسن ما أورد البخاري الحديث الذي قال فيه: حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري قال: أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب ". قال الماوردي: "تقدمت بشائر من سلف من الأنبياء بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم مما هو حجة على أممهم، ومعجزة تدل على صدقه عند غيرهم، بما أطلعه الله تعالى على غيبه، ليكون عوناً للرسل، وحثاً على القبول، فمنهم من عينه باسمه، ومنهم من ذكره بصفته، ومنهم من عزاه إلى قومه، ومنهم من أضافه إلى بلده، ومنهم من خصه بأفعاله، ومنه من ميزه بظهوره وانتشاره، وقد حقق الله تعالى هذه الصفات جميعها فيه، حتى صار جلياً بعد الاحتمال، ويقيناً بعد الارتياب".
السيرة النبوية حافلة بالأخبار والمواقف الدالة على علم اليهود والنصارى بنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم، وعلم أحبارهم وقساوستهم بصفاته وعلاماته، ومن ذلك ما حدث مع بحيرا الراهب، والنجاشي ملك الحبشة، وهرقل ملك الروم، وسلمان الفارسي.