دراما.. «كان يا ما كانش» لعبد الحميد بوشناق: الوجع يكتب بالفن والنقد مطيته السخرية

رحلة الى عوالم الخرافة والخيال، فانتازيا درامية كوميدية مغلفة بالنقد والسخرية من الواقع، شخصيات ذات اسماء غريبة ومظاهر عجيبة تنتمي الى مدن اكثر

عجبا جميعها تمتزج مع الواقع التونسي لنقده وإبراز كل عيوب السلطة والمجتمع، متعة فنية قدمت في 15حلقة في النصف الاول من شهر رمضان عنوانها «كان يا ماكانش» اخراج عبد الحميد بوشناق.
«كان يا ما كانش» السلسلة الكوميدية التراجيدية، هي صرخة ضد الفساد ومحاولة انتصار للشباب وفكرة التغيير، طريقة ابداعية متجددة وسرد مختلف عايشه جمهور الدراما، فعل فني مختلف يؤكد ميل المخرج إلى التجديد، 15حلقة من الخيال ورسالة اعتراف الى التقنيين وكل المساهمين في انجاز العمل من خلال تمرير صورهم في جنيريك النهاية للتأكيد أن العمل الدرامي يتكامل بالممثلين والتقنيين والكاتب والمخرج وليس صناعة فردانية بل عملا جماعيا زاده «المحبة».
رحلة خيالية درامية
رحلة في الزمان والمكان، رحلة في التاريخ والجغرافيا، رحلة تترك للخيال العنان ليتجول ويجمع شخوصا ربما لا تجتمع مطلقا في الواقع، لـ15حلقة وقد تجول الجمهور من قصة الى اخرى يربط بينهما الثلاثي المرح والمبدع «برغل» (عزيز الجبالي) و»نعناع» (جهاد الشارني) و»مهراس» (سيف عمران) يهربون من مملكة الملك «ساطور» (المنجي العوني) وفي كل حلقة يكتشفون اماكن جديدة وشخصيات مختلفة بعضها يعرفه الاطفال جيدا مثل سندريلا وبيضاء الثلج وأخرى موجهة للكهول مثل الشنفخة والصحراء العربية زمن الجاهلية.
لا وجود لسيرورة زمنية فقط احداث السلسلة هي الفاصل الزمني، كل الشخصيات التي يلتقي بها الهاربون الثلاثة تمثل مساحة للنقد على سبيل الذكر نقد انتشار وباء كورونا من خلال استعمال الكناية فالأحداث تكون في مملكة «الملك جرجيس» اين (ينعدم الشم والتذوق بسبب شربة راس العام) وتتحدث الطبيبة نهاف الخبيرة في الامراض المستجدة لتخبرهم عن وصول 3500جرعة من احدى الدول لإنقاذهم مشهد وتصريحات يعايشها التونسيون منذ عام تقريبا.
تتواصل الرحلة المغرية والخيال اللامحدود الذي جمع عبد الحميد بوشناق وعزيز الجبالي وحاتم بلحاج لكتابة فكرة وفانتازيا جد مختلفة وتقديم نمط فني جديد ومغر، في «كان يا ماكانش» يكون الانطلاق دائما من الهنا من الواقع التونسي وتقديمه بطريقة فانتازية تجمع السخرية والضحكة لإيصال رسائل النقدية في قالب ضحكة، اسلوب كتابة ذكي وطريقة تصوير مميزة جعلت من السلسلة مشوقة وتغري بالفرجة والمتابعة.
الفنّ تشريح للسلطة والدولة
الفن محاكاة للواقع ونقد له، ودور الفنان كشف بؤس السلطة والسياسة وتعرية الحقائق للشعب هكذا كانت كاميرا عبد الحميد بوشناق، وٌضعت تونس في مختبر للتشريح صغير الحجم وبدأت عملية التشريح لإظهار الفساد والسلطة والصراع على المادة والخدمات البطيئة من خلال شخصيات مركبة قائمة على الكاريكاتور، في السلسلة نقد للفساد (مملكة الملك ساطور غنية التربة تعاني شحا في القمح والمواد الاساسية بسبب الفساد) وأزمة القمح وإتلافه وسوء تخزينه من المظاهر المتكررة في تونس في السنوات الأخيرة.
شخصية «سموم» الحالمة بالسلطة هي انموذج عن كثير من الاحزاب يشترون الاصوات قبل الانتخابات ويحلمون للوصول الى الحكم مهما كانت الوسيلة (السم، القتل، الرشوة)، و«خفاش» الشخصية الشهيرة، دور جدّ مركب قدمه الممثل جمال المداني فاقنع متابعيه «خفاش» وهو الحاكم الاصلي للبلاد دون الظهور للعلن، هو راس المال والاحزاب التي تسطر القرارات دون يعرفها التونسيون هو الاحزاب التي تتصارع على حكم تونس في السنوات الاخيرة.
و«قلادة» هي تونس التي يتسابق الكثيرون للفوز بها، «قلادة» الخيرات والثروات مطمع الدول (الحلقة 12 تقام مسابقة تجمع ملوك ومشاركين من كل الدول والفائز تكون قلادة هديته) اما «برغل» فهو الحلم الذي رسمه الكثير من التونسيين بعد الثورة، «برغل» ابن الشعب «انا ولد الشعب مانحبش الحكم، نحب نقعد وسط الشعب»، «برغل» الذي يخوض معارك فقط لأجل الحياة، يتراجع مرة ويُقدم مرات هو حلم التونسيين بنظام حكم افضل ووطن يتسع للجميع ومشهد الإعدام كان بمثابة محاولة اعدام احلام التونسيين لكن المخرج قدم للجمهور مسحة امل اخرى بعد نجاة برغل من الموت ووصوله الى الحكم»انا خديمكم موش الملك متاعكم»، اما الشعب فجائع وخائف وصامت على الظلم والضيم.
«كان يا ماكانش» تشرّح المجتمع التونسي والسلطة، تكشف خيبات الشعب وهنات السلطة، محاولة فنية لوضع التونسي امام مرآة الحقيقة علّه يكتشف تقصيره تجاه وطنه ومحاولة للكشف عن زيف الاحزاب وارتجال المسؤولين.
النساء معمّرات الارض وواهبات الحياة
هنّ سيدات الارض والفكرة، هنّ مانحات الحياة ومنقذات الوطن، النساء عنوان للوفاء والقوة والصدق كرمّهن عبد الحميد بوشناق في سلسلة «كان يا ماكانش»، النساء انقذن المملكة من الضياع والاحتلال، النساء انقذن «برغل» مستقبل المملكة من الموت، النساء صنعن المستقبل وأنقذن البلاد من الجوع بعد الجفاف، النساء سيدات الفعل الدرامي والانساني كما قدمتهنّ كاميرا المخرج عبد الحميد بوشناق.
النساء في السلسلة كثيرات، كلهنّ فاعلات في صناعة الأحداث، لا وجود لامرأة انهزامية او سلبية، حتى سموم» (هالة عياد) الشريرة صانعة الفعل في مملكتها، هالة الممثلة المتحولة من حالة نفسية الى اخرى في لحظة، القادرة على الضحك والبكاء في آن، قدمت شخصية مختلفة وكانت مميزة في دور «سموم».
النساء يشكلن الملامح العامة للمملكة فـ«ميما» (فاطمة بن سعيدان) الام الحريصة على مملكة ابنها ونجاة حفيدها شخصية متفردة وذكية فاطمة الممثلة البارعة كانت مذهلة امام الكاميرا، و«قلادة» (نور الهدى الناوي) المعشوقة الفارسة التي تنقذ وطنها من الجفاف بفضل شجاعتها و «حمراء حمراء» (ياسمين الديماسي)تخرج من قالب الحكاية لتنقذ الشباب الثلاثة وتكون نصيرتهم حد الوصول الى الحكم وأتقنت ياسمين حيثيات الشخصية وقيمها وكانت صادقة في الاداء واصبح لحمراء حمراء جمهورها.
في «كان يا ماكانش» تكون الحظوة للنساء، في الحلقتين 10 و11 و12 تكون الرحلة الى مدينة تسكنها فقط النساء، مدينة للهاربات من الظلم والوجع وانتهاك الجسد والروح، مدينة تحكمها «دفلة» (سندس بلحسن) وتساعدها «زينة» (رباب السرايري) كل منهما عنوان للقوة والذكاء كلما جميعهما مشهد، كان درس في التمثيل، سندس بلحسن ورباب السرايري لكل واحدة ميزتها وسحرها امام الكاميرا وفي المشاهد الثنائية ابدعتا حد الصدق، مدينة «دفلة» تحكمها النساء «باسم الام الى جابت والأخت الي تحمينا ،البدنات بدناتنا لانا عبيد ولانا ماكينة، احنا الاصل وهما السلطة» في اشارة الى العلاقة الثنائية امرأة-رجل وانتصار للمراة فكرة قبل ان تكون جسدا بالاضافة الى استعمال اللغة الامازيغية في الحوار الثنائي للتذكير ان الامازيغ جزء من هذا الوطن.
«النساء» قبس الامل في تونس عبر التاريخ، في السلسلة كنّ نقاط مضيئة فهنّ عنوان للفطنة والذكاء، النساء رمز لوطن حتى وان انهكته جراح السياسة يبقى شامخا وتظل الخضراء حرة ومنيعة.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115