والثاني: أن اجتماع المعارضين على تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم وحرصهم على إبطال دعواه، ثمّ عجزهم عن الإتيان بمثل ما أتى به، دليل على أنه لم يأت بهذا من عند نفسه، بل هو مؤيد من الله سبحانه. وذلك أن الذي يستطيع تعطيل قوانين الطبيعة المعتادة، إنما هو خالق الكون وواضع قوانينه. فيكون ظهور المعجزة على يد النبي صلى الله عليه وسلم ، بمثابة التصديق من الله تعالى له في دعواه أنه مرسل من عند الله.
والثالث: أن هذه المعجزات مقترنة بدعوى النبوة. فلا يخلو صاحبها من حالين:
إما أن يكون كاذبا في دعواه، دجالا لا يتورع عن الكذب على الله سبحانه؛
وإما أن يكون نبيا كريما، ورسولا صادقا في دعواه.
وبين مفهومي النبي والدجال كالذي بين السماء والأرض!
فلا يلتبس هذا بذاك إلاّ على جاهل مغرق في الجهل، لا يستطيع التمييز بين صلاح النبي وأحواله السَّنية وخصاله الحميدة؛ وبين فساد الدجال وأحواله القبيحة وصفاته الذميمة.
والرابع: أن المعجزات النبوية لا يمكن أن تختلط بسحر السحرة وتدجيلهم. وإذا لم تكن سحرا، فلا يبقى إلا أنها آيات يؤيد الله بها نبيه، فتكون دليلا على صدق صاحبها.
وأما عدم التباس المعجزات بالسحر، فلأسباب كثيرة، منها:
منها: أن السحر يمكن تعلمه والإتيان بمثله، بخلاف المعجزة فإنها ناتجة عن محض اصطفاء من الله تعالى، لا يد للمخلوق في اكتسابها.
ومنها: أن معارضة السحر بمثله ممكن ووارد، أما المعجزة فسبق أنها تمتنع معارضتها.
ومنها: أن السحر أغلبه تخييل وخداع، وأما المعجزة فهي تغيير للحقائق والماهيات.
ومنها: أن غاية الساحر – في الغالب – تحصيل الدنيا، وغاية النبي هداية الناس.
ومنها: أن للنبي حالا عظيمة من العبادة والتقوى والصدق والعدل، وغير ذلك من المكارم والصفات الحسنة. وأما الساحر فهو بمعزل عن ذلك كله، فالغالب عليه اقتراف المنكرات، والوقوع في الشركيات، والاستهانة بالمحرمات!
ومنها: أن النبي يأمر الناس بما فيه صلاحهم في دنياهم وآخرتهم، وينهاهم عما فيه فساد أديانهم ومعايشهم، ولا يأتي إلا بما يوافق الفطرة البشرية السوية. والساحر عمله في إذاية الناس، وتزيين الشرك والكذب والظلم في عيونهم.
إلى غير ذلك من وجوه التمييز بين الأمرين.
ومن هذه الأوجه نتبين أن أمر المعجزات المادية عظيم، وأن الحجة تقوم بها على الناس كافة، لاعتمادها على المدركات الحسية الواضحة التي يستوي الناس في فهمها وقبولها والإذعان لها، إن لم يقف في وجه ذلك مانع من جهل أو عناد.
ولكن لا ينبغي الغلو في شأنها إلى درجة حصر دلائل النبوة فيها، فشأن النبوة أعظم من أن تحصر طرق العلم بها في دليل واحد، بل هذه المعجزات المادية تدخل ضمن منظومة كاملة من براهين النبوة.