وأما السؤال الثاني، فجوابه أن التواتر يفيد العلم اليقيني عند جماهير العقلاء، السالمين من آفة السفسطة. وبيان ذلك إجمالا: أن الأخبار إنما تُرد لوهم رواتها أو لتعمدهم الكذب فيها.
فأما إمكان الغلط والوهم فيجبر بالكثرة، إذ يمتنع في بديهيات العقل أن يتفق العدد الغفير من الناس على الغلط أو السهو أو النسيان في نقل الخبر!
وأما احتمال تعمّد الكذب فيجبر باشتراطنا في تعريف المتواتر أن يستحيل تواطؤ رواته على الكذب، لاختلاف مذاهبهم وبواعثهم الفكرية، وتنوع طبقاتهم وأماكن وجودهم.
وفي خصوص المعجزات الحسية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فإن المتأمل لأحوال الرواة، يجزم باستحالة اتفاقهم على الوهم، أو تواطئهم على الكذب.
والعقلاء يجدون نفوسهم مطمئنة بوجود البلدان البعيدة التي لم يسافروا إليها، وبوجود الأشخاص الذين ماتوا قبلهم، طمأنينة لا يخالطها أدنى تردد؛ وما وصلهم خبر ذلك إلا بطريق التواتر.
والذي يجوّز عقله الشك في مثل هذا، فإنه يجوّز التشكيك في المحسوسات كلها، وينتقل إلى مرتبة السفسطة وهدم أسس المعرفة كلها!
فلعل الفلسفة اليونانية لم توجد قط، ولعل الثورة الفرنسية ما كانت أبدا، ولعل الحرب الأهلية في أمريكا حديث خرافة، وهكذا في سلسلة من التشكيكات التي لا يحدها ضابط!
والذين يرفعون راية العقل ويدّعون التحاكم إليه في كل شيء، لا يصح أن يشككوا في البديهيات، فإن الشك المنهجي هدمٌ مجرد، يريح العقول من عناء البحث، كما يقول هنري بوانكاريه: "الشك في كل شيء، والإيمان بكل شيء: حلان مريحان، يغنياننا عن التفكير".
وها هنا شبهتان، تحتاجان لشيء من البيان، إحداهما نقلية والأخرى عقلية.
فالنقلية:
زعم بعضهم أن للنبي - صلى الله عليه وسلم – معجزة وحيدة هي القرآن الكريم. وقد يستدلون بقوله تعالى: "وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون، وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها. وما نرسل بالآيات إلا تخويفا" الإسراء:59.
والحق أن الآية الكريمة خاصة بآيات الاقتراح، أي بالمعجزات التي يطلب المشركون حدوثها. فبين الله سبحانه أن هذه المعجزات إن وقعت ولم يؤمنوا بها، كانوا مستحقين للهلاك العاجل في الدنيا. والله تعالى شاء أن تكون هذه الأمة مخالفة لمسالك الأمم السابقة، فلا يلحقهم هلاك دنيوي يستأصلهم.
يقول ابن جزي رحمه الله: " الآيات يراد بها هنا التي يقترحها الكفار، فإذا رأوها ولم يؤمنوا أهلكهم الله. وسبب الآية أن قريشاً اقترحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبًا، فأخبر الله أنه لم يفعل ذلك لئلا يكذبوا فيهلكوا .."
فليس في الآية عدم إرسال الآيات مطلقا، وإنما هي خاصة بنوع مخصوص منها.
يتبع