فوانيس الهداية: دروس للعلماء من قصة طالوت (2)

ولذلك يُسجِّلُ لنا القرآن الكريم هذا الموقف النبوي من طلب بني إسرائيل برضى نفسي، قلَّمَا تخلو منه النفوس المتطلعة للزعامة، "

وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا" البقرة:247. وهكذا يؤدب الله تعالى أنبياءه بأن الملك شأن دون مكانتهم الرسالية، وأنه دور قد يصلحون له وقد لا يصلحون، وهذا لا ينقص من قدرهم شيئاً! وكما أن الله تعالى اصطفاهم للنبوة أو الرسالة، فإنه يصطفي للملك من يشاء، فهو سبحانه يختار لعباده الأصلح لحالهم والأنفع لآخرتهم.
ومن العجيب أن بني إسرائيل الذين بُلِّغُوا بخبر الله هذا تطاولوا في تطلعهم إلى مقام لم يتطلع له نبيهم الذي هو أشرفهم منزلة، وتجرؤوا أن يقولوا: "أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال" البقرة:247.

وبعد هذا الاعتراض يقدم إليهم نبيهم علة الاختيار الإلهي الحكيم، ليضفي على مكانة المـُلك شروطاً أخرى غير التقوى في مقياس العلماء، والمال في مقياس العامة، فـ "قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم" البقرة:247.
والعلم المقصود هنا علمٌ آخر بالطبع. فهو علم الحكم والسلطة، علم بالجانب السياسي، وقيادة الأمة، وإدارة مواردها، وتوجيه الصراع مع أعدائها، وكل علم يخدم رسالة هذه المكانة. وليس علماً فحسب بل بسطة في هذا العلم. وأما بسطة الجسم فهي تقابل عظم المهمة وضخامة الهم، بحيث لا تسعف هذه البسطة القيادة المتصدرة للصراع بالكفاءة النفسية، فإن للجسم أثره على الأداء العقلي والنفسي دون شك.

إننا لا نلغي دور الإيمان والتقوى والأخلاق في شخصية طالوت ، لكنها لم تكن الفيصل في الاختيار، إنما الفيصل في الشروط الإضافية المناسبة للمهمة والدور.

لقد توفر في تلك المرحلة من تاريخ بني إسرائيل الخطر المشترك الذي دفع بهم، وهم الذين غلب عليهم الشقاق والافتراق وسفك بعضهم دماء بعض واضطهاد بعضهم بعضاً، وتضليل بعضهم لبعض، ليوحدوا صفهم في قيادة واحدة تمثل إرادتهم. وحالة الخطر الخارجي غالباً ما تدفع الشعوب لنسيان خلافاتها الداخلية، وتجاوز ثاراتها لصالح بقائها ونجاتها، وهذا لا يكون إلا إذا كانت الأمة في حالة من الوعي الذي يمكنها من تقدير الموقف تقديراً صحيحاً، ومن السمو فوق مصالحها وهموما الفئوية والخاصة.

هذا هو الظرف الذي انطلقت منه إرادة التغيير، إنه ظرف يجمع بين التخلف الداخلي والتهديد الخارجي، بين واقع الماضي البئيس وأماني المستقبل المأمول. ظرف توفرت فيه إرادة التغيير لدى الأمة، والمرجعية الشرعية التي تضبط إيقاع الأمة الحركي، وقيادة سياسية تتحد وراءها الأمة وتحمل تطلعاتها برنامجاً عمليًّا للتطبيق والعمل.

يتبع

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115