مبينا أن الأصل في هذه الوحدة التعاليم الإلهية: "شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ" الشورى: 13 .
ويدعو المسلمين إلى التشبت بالطريق الموصلة إلى هذه الوحدة، فيقول: "قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلىَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" البقرة: 136.
فالدعوة إلى التعايش السلمي بين أهل الكتب السماوية حقيقة قررها القرآن ودعا إليها؛ لأن الاختلاف ظاهرة إنسانية، ويقع في المجتمعات البشرية على كافة المستويات؛ فيقع بين الأفراد بعضهم البعض، كما يقع بين الفئات، والهيئات، والطوائف، والدول أو الأمم بعضها البعض كذلك.
والقرآن الكريم يشير إلى هذا كله ويؤكده كما سلف، فقدرة الله لم تتعلق أبدا بأن تحعل الناس أمة واحدة؛ لأن الحكمة في الاختلاف ليظهر الحق، ويتبين الرشد من الغي؛ فيكون الإيمان عن إقناع واقتناع بعد محاورة بين الحق والباطل. قال الله تعالى: "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً" النحل: 93، وقال تعالى: " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ" هود: 118، 119.
قال أبو جعفر الطبري: «يقول تعالى ذكره: ولو شاء ربك، يا محمد، لجعل الناس كلها جماعة واحدة على ملة واحدة ، ودين واحد»، وقال ابن كثير: «يخبر تعالى أنه قادر على جعل الناس كلهم أمة واحدة، من إيمان أو كفران، كما قال تعالى :"ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا" يونس: 99.
وقوله : "ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك"، أي: ولا يزال الخلف بين الناس في أديانهم، واعتقادات مللهم ونحلهم، ومذاهبهم وآرائهم».
والتعايش السلمي أيضا هو ظاهرة إنسانية، ويراد منه الحيلولة بين الاختلاف في الرأي، وبين ما يؤدي إلى الحرب؛ وذلك بالرفض المتبادل بين الطرفين المختلفين لاتخاذ الحرب وسيلة لحل المنازعات التي بين المختلفين أفرادا وجماعات ودول.
والمؤمنون بالتعايش السلمي يذهبون إلى إمكانية قيامه إذا آمن به الطرفان المتنازعان، واعتمدوا طريق المفاوضات ثم الاتفاقيات في الفصل في الخلافات.
والقرآن الكريم يؤكد هذا الاتجاه، ويدعو إليه فيما بين المسلمين وأهل الكتاب، ويدعوهم إلى كلمة سواء تكون منطلقا للحوار وأصلا للمجادلة بالحسنى بينهم.
والقرآن الكريم يقصد دائما وأبدا إلى المسالمة، وإلى الجدال بالتي هي أحسن، ولا يدعو أبدا إلى الحرب لفض النزاعات. إن الحرب في المنظور القرآني ليست إلا لرد الاعتداء، قال الله تعالى: "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" سورة الممتحنة: الآية 8.
والحاصل أن دين الإسلام يحث على التعاون والألفة مع غير المسلمين لتحقيق المصالح المشتركة في الحياة الدنيا، فخالق الكون سبحانه وتعالى جعل التعارف والتقارب والتعاون بين الناس غاية نبيلة ومقصدا عظيما، كما في الآية القرآنية "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" الحجرات: 13، وبعبارة أخرى، فإن دين الإسلام يحث جميع المخلوقين على التعاون لتحقيق السلام والأمن، ونبذ الحرب والعنف والاقتتال، وكل ما يسبّب الفتنة ويؤدي إلى الخراب والدمار؛ لينعموا بالعيش المشترك الآمن.