نبيء المرحمة: اليد العليا خيرٌ من اليد السُّفلى (2)

ثمّ قال عليه الصّلاة والسّلام: "وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ": أي إن كان عندك زيادة من مال فابدأ بأهلك الذين تعولهم، لأنّ المسلم يجب عليه أن يبدأ بالنّفقة الواجبة عليه،

ومنها النّفقة على زوجته وأبنائه، وبعد ذلك يمكنه أن يتصدّق على الأقربين ثمّ من سواهم، "وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنى": أي لا صدقة إلا بعد إحراز قوته وقوت أهله، لأن الابتداء بالفرائض قبل النّوافل أولى، وليس لأحدٍ إتلاف نفسه أو إتلاف أهله بإحياء غيره، وإنما عليه إحياء غيره بعد إحياء نفسه وأهله، إذ حقُّ نفسه وحقُّ أهله أوجب عليه من حقّ سائر النّاس.

ثُمّ قال: "وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ الله، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ الله": أي من يمتنع عن السّؤال يجازيه الله تعالى على استعفافه بصيانة وجهه ودفع فاقته، إمّا بأن يرزقه المال أو يرزقه القناعة، ومن يستغن بالله عمّن سواه، فإنّه يعطيه ما يستغني به عن السّؤال، ويخلق في قلبه الغِنى، فإنّ الغِنى غِنى النّفس، وفي حديث أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه أنّ ناسًا من الأنصار سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأعطاهم، ثُمّ سألوه فأعطاهم، حتى نفد ما عنده، ثمّ قال "مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ الله، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ الله، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ الله، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ" متّفقٌ عليه، قال الإمام القُرطبيُّ: "وَمَنْ يَتَصَبَّرْ" أَيْ يُعَالِج نَفْسه عَلَى تَرْك السُّؤَال وَيَصْبِر إِلَى أَنْ يَحْصُل لَهُ الرِّزْق "يُصَبِّرهُ الله" أَيْ فَإِنَّهُ يُقَوِّيه وَيُمَكِّنهُ مِنْ نَفْسه، حَتَّى تَنْقَاد لَهُ، وَيُذْعِن لِتَحَمُّلِ الشِّدَّة, فَعِنْد ذَلِكَ يَكُونُ الله مَعَهُ فَيُظْفِرهُ بِمَطْلُوبِهِ".
وهذا الحديث فيه توجيه نبوي يلخّص في:

- التّرغيب في التّصدُّق والحثِّ عليه: ذلك أنّ اليد العليا يد المُتصدِّق، والسُّفلى يد السّائل، والمعطِي مُفضّلٌ على المُعطَى، والمُفضِل خيرٌ من المُفضَل عليه.

- مشروعيّة السّعي في اكتساب المال: حتى ينفِق على نفسه وعلى من يعول، وليكون لديه بعد ذلك ما ينفقه في وجوه الخير والبرّ، فيكون من أهل اليد العُليا الممدوحة في الحديث.

- تقديم الأهمّ على المُهمّ: أفضل الصّدقة ما وقع من غير مُحتاج إلى ما يتصدّق به لنفسه، أو لمن تلزمه نفقته، حيث قال: "وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ عَنْ ظَهْرِ غِنى".

- الاستغناء عن النّاس، والتّرفع عن سؤالهم: قال الحافظ ابن حجر في الفتح بعد شرحه لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "فِي الْحَدِيث الْحَضّ عَلَى الِاسْتِغْنَاء عَنْ النَّاس وَالتَّعَفُّف عَنْ سُؤَالهمْ بِالصَّبْرِ وَالتَّوَكُّل عَلَى الله وَانْتِظَار مَا يَرْزُقهُ الله, وَأَنَّ الصَّبْر أَفْضَل مَا يُعْطَاهُ الْمَرْء لِكَوْنِ الْجَزَاء عَلَيْهِ غَيْر مُقَدَّر وَلَا مَحْدُود"، وقال الإمام ابن الجوزي: "لَمَّا كَانَ التَّعَفُّفُ يَقْتَضِي سَتْرَ الْحَالِ عَنِ الْخَلْقِ وَإِظْهَارِ الْغِنَى عَنْهُمْ فَيَكُونُ صَاحِبُهُ مُعَامِلًا لِلهِ فِي الْبَاطِنِ فَيَقَعُ لَهُ الرِّبْحُ عَلَى قَدْرِ الصِّدْقِ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا جُعِلَ الصَّبْرُ خَيْرَ الْعَطَاءِ لِأَنَّهُ حَبْسُ النَّفْسِ عَنْ فِعْلِ مَا تُحِبُّهُ وَإِلْزَامُهَا بِفِعْلِ مَا تَكْرَهُ فِي الْعَاجِلِ مِمَّا لَوْ فَعَلَهُ أَوْ تَرَكَهُ لَتَأَذَّى بِهِ فِي الْآجِلِ".

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115