وعن أبي بكر بن الأثر قال: “سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يُستفتى فيكثر أن يقول: لا أدري”.
كما أن الإمام مالك ربي تلامذته على عدم التسرع في الفتوى والحرص على الجواب، دون استحضار العديد من الأمور، لعل أخطرها الرقابة الإلهية، وهي حصن حصين وصمام الأمان لمن يريد النجاة، حتى أن العديد منهم يودوا لو يجدوا من يكفيهم أمر الفتوى، فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول. وفي رواية ما منهم من يحدث بحديث، إلا ود أن أخاه كفاه إياه، ولا يستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.
وروى ابن وهب أن رجلا جاء: “يسأل مالكا عن مسألة فبادر ابن القاسم فأفتاه، فأقبل عليه مالك كالمغضب وقال له: جسرت على أن تفتي يا عبد الرحمن؟ يكررها عليه، ما أفتيت حتى سألت هل أنا للفتيا موضع؟ فلما سكن غضبه قيل له من سألت؟ قال: الزهري وربيعة الرأي.
وقد جاء رجل إلى مالك بعد صلاة الصبح، وكان مالك لا يتكلم حتى تطلع الشمس فجلس الرجل ما شاء الله ثم قام ليذهب فقال له ابن دينار: “ما شأنك؟ فأخبره. فأفتاه ابن دينار، فلما انفتل مالك، قال: “يا محمد! تفتي؟ قال: أصلحك الله لم يطمع الرجل فيك وقام ليذهب، فخشيت أن يذهب بجهالة فأفتيته بما أعلم من مذهبك. فقال له مالك: عجلت”.
كما يشترط في المفتي أن تكون أفعاله مطابقة وموافقة لأقواله، حتى لا يكون من الذين قال عنهم الحق سبحانه "كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" الصف/3 وقوله تعالى: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم" البقرة/44 وتمكن أهمية هذا الشرط في أن المفتي محل للتأسّي والاقتداء، لأنه كما أسلفنا قائم مقام النبي صلى الله عليه وسلم ونائب منابه، فهذه المكانة والمقام ليس فقط من أجل البيان والإعلام للغير، فذلك أمر ظاهر كما قال الشاطبي، وإنما يتعداه إلى غيره وذلك من وجهين: أحدهما: أنه وارث، وقد كان المُورِّث قدوة بقوله وفعله مطلقا، فكذلك الوارث وإلا لم يكن وارثا على الحقيقة، فلابد من أن تنتصب أفعاله مقتدى بها كما انتصبت أقواله. والثاني: أن التأسي بالأفعال بالنسبة إلى من يعظم في الناس سر مبثوث في طباع البشر، لا يقدرون على الانفكاك عنه بوجه ولا بحال لاسيما عند الاعتياد والتكرار وإذا صادف محبة وميلا إلى المتأسي به، ومتى وجدت التأسي بمن هذا شأنه مفقودا في بعض الناس فاعلم أنه إنما ترك لتأس آخر، وقد ظهر ذلك في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه الحقيقة يغفل عنها الكثيرون خصوصا في هذا العصر، فتجد وسائل الإعلام باختلاف اتجاهاتها وألوانها ومذاهبها تتبع خطوات المشاهير بما فيهم رجال الدين وإن كانوا لا يشعرون، فكم من داعية ومفتي تربصوا به وتصيدوا مثالبه وهفواته وشهروه فسقط في أعين الناس، فليكن الداعي والمفتي أحرص على الاستقامة واجتناب كل ما من شأنه أن ينفر الناس عنه باعتباره قدوة ونموذجا يحتذى به، لذلك نجد الشاطبي يحث المفتي المنتصب للفتوى على ضرورة موافقة أفعاله لأقواله، وأن يحافظ على أفعاله حتى تجري على قانون الشرع ليتخذ فيها أسوة.