المحيط بعلمه لكل أبعادها وتفاصيلها الظاهرة والباطنة، ولكل المؤثرات التي عملت فيها. وهذه القصص لا تقتصر على الفرد بل على الجماعة، وليس على جوانب الإيمان، بل وجوانب الحياة التي لا تخلو من تأثير الإيمان عليها. وهي تُقدَّم للجميع حكاماً ومحكومين، علماء وعامة، حيث يمثل القرآن الكريم خطاباً إلهيًّا للجميع.
وإذا كانت للنفس الإنسانية انحرافاتها في حال جهلها وجحودها، فإن لها أيضاً انحرافاتها في حال علمها وإيمانها، لذلك نجد أن العبرة والعظة لا تقتصر على مخاطبة العصاة والمتجبرين والفسقة والظلمة، بل تتجاوزهم إلى المتّقين والمصلحين؛ لأن القرآن موعظة الله الخالدة للجميع، حتى لأولئك الذين ورثوا العلم والإيمان، فليس أحد فوق خطاب الله وتوجيهه.
من هذا المنطلق نعرض لبعض الفوائد التي يمكن استنباطها من قصة بني إسرائيل التي حكتها سورة البقرة في معرض الحديث عن نشوء مملكة بني إسرائيل، تلك المملكة التي مثلت عصراً ذهبيًّا لهم عبر التاريخ. حيث أن هذه القصة تبدأ بتشخيص الواقع الذي انطلق معه مشروع التغيير، والخطوات والمراحل التي بلغت ببني إسرائيل النصر.
وهذا الواقع الذي تتحدث عنه السورة متشابه في كثير من جوانبه مع واقع المسلمين اليوم؛ لذا فإن علينا أن نتلقى هذه القصة -وغيرها من قصص القرآن- بوعي وحضور ذهني يربط بين عِبَر الماضي وحقائق الواقع، لنستلهم من القرآن الكريم معالم الطريق.
تحدثنا سورة البقرة عن الظروف التي عاشها بنو إسرائيل في تلك الحقبة التي سبقت مشروع التغيير لديهم، على لسان بني إسرائيل بكونهم أخرجوا من ديارهم وأبنائهم، ما يعني أنهم تعرضوا لغزو خارجي أتى على أرضهم فاحتل ديارهم، واستولى على أملاكهم، وهجرهم أو اضطرهم إلى الهجرة فراراً طلباً للأمن أو النجاة، "قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا"البقرة:246.
ولم يقتصر هذا الواقع على هذه الحالة التي كانوا عليها، بل كانوا -فيما يبدو- في حالة من الخلاف والتشرذم، كما هي عادتهم، ما جعلهم لا يخضعون لسلطان واحد حتى مع وجود نبي بين أظهرهم. ومن المعلوم أن النصر على الأعداء يتطلب توحيد الصفوف واجتماع الكلمة على قيادة واحدة، لذا توجه الملأ منهم، والتعبير بالملأ دليل على غياب قيادة موحدة لهم، إلى نبيهم بهذا الخطاب: "ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله" البقرة: 246. ومن العجيب الذي يُخلِّدُه الله تعالى لهذا النبي الكريم أنه على الرغم من مكانته الدينية، وكونه نبيًّا مصطفى من الله، إلا أنه لم يتطلع لأمر الحكم والقيادة السياسية، وهو الذي خبر واقع بني إسرائيل من معايشته لهم! وهذا ليس عيباً ولا نقصاً فيه، "فكُلٌّ مُيسرٌ لما خُلِقَ له" متفق عليه، بل توجه إلى الله تعالى بالدعاء لاختيار قيادة سياسية تقوم بهذا الدور. وهنا يمكننا أن نقف وقفة تربوية مع العلماء، العلماء المشتغلين بميراث النبوة الفقهي والعقدي، حيث أن حمل هذا الميراث ليس شرطاً كافياً للقيام بكل المهام والمسؤوليات العامة للأمة، بل ربما يتوفر في المرء من الدين والتقوى والعلم والأمانة الشيء الكثير لكنه لا يصلح لقيادة الناس وإدارة شؤونهم العامة.
يتبع