التوبة أول منزلة من منازل السالكين وأول مقام من مقامات الطالبين قَالُوا: شرط التوبة حَتَّى تصح ثلاثة أشياء:
الندم عَلَى مَا عمل من المخالفات، وترك الزلة فِي الحال، والعزم عَلَى أَن لا يعود إِلَى مثل مَا عمل من المعاصي فَهَذِهِ الأركان لابد منها حَتَّى تصح توبته.
والتوبة هي إقلاع الجوارح عن المعاصي والمحرمات وهجرة القلب للآثام والغفلات، قال تعالى: “وَذَرُواْ ظَاهِرَ الاثْمِ وَبَاطِنَهُ” الاَنعام،121؛ فالتوبة طهارة من الذنوب، ولابد في الطهارة من طهارة القلب والجوارح.فإذا انسلخ المرء من كل ما لا يُرضي الله، وتاب قلبه وتطهَّر من كل ما يُبعد عن الله ويحجب عنه، من: الغفلة والآثام والصفات الذميمة، تحلَّى بالإيمان وذاق حرارة القرب والمعرفة، وصار قلبه وِعاءً للتقوى، كما أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ثلاثاً: “التقوى ههنا” ويُشير إلى صدره فضِدّان لا يجتمعان في قلبٍ واحد، “ومَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ” الاَحزاب، 4
فلا طريق لنا في كمال التنعم بالقرب من حضرة الله عز وجل إلا بالإقلاع عن الصفات المذمومة ظاهرا وباطنا. قال ابن عطاء الله السكندري: “فأول المقامات التوبة، ولا يُقبل ما بعدها إلا بها”. والتوبة واجبة من جميع الذنوب كبائرها وصغائرها، ظاهرها وباطنها. والتوبة من جميع الذنوب هي التوبة النصوح؛ والأصل في وجوبها قوله تعالى: “وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً اَيُّهَا الْمُومِنُونَ
وقال تعالى: “وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُم الظَّالـِمُون”الحجرات، 11، قال ابن عطاء الله السكندري: “مَن فعل المعاصي وتقلب في المحارم، لو انغمس في سبعة أبحر لم تطهره، حتى يعقد مع الله عقد التوبة. وإنّ من أخطر الذنوب عند القوم أحقرُها، ولرُبـّما استعظم المرء الكبائر فتاب عنها، واستحقر الصغائر فلم يتب عنها؛ قال تعالى: “وَتَحْسبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ” النور، 15. وقال عز وجل: “وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ” الزمر، 47؛ لذلك شمّر القوم للتوبة عن كل صغيرة فضلا عن الكبيرة.
ومن أخطر الذنوب عندهم كذلك ما بطن منها، مِن شهواتٍ خفية: كالكبر، والعُجب، والرياء، والحسد، وغير ذلك… وهي آثام مهلكة قد يَـتلبَّس بها حتى العابد الـمُطيع، و“لَرُبّ معصية أورثت ذُلاًّ وافتقارا خيرٌ من طاعة أورثت عِزّاً واستكباراً”؛ لأن المقصود من الطاعة هو الخضوع والخشوع والانقياد والتذلل والانكسار، وليس العُجب والرياء والاستكبار، قال تعالى: “سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْاَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ” الاَعراف، 146، لذلك كان لزاما أن يسعى المريد إلى التوبة مِن كل الآثام والأدران والأغلال التي تُصيب القلب، والتي تُميت الإيمان فتمنع أنواره وشراراته من أنْ تنقدح في القلوب؛ لأن ذنوب القلب، كما قال الشيخ عبد القادر الجيلاني، هي أمهات الذنوب وأصولها.
ولا يتمّ كمال التوبة إلا بالانتهاء إلى التوبة عن كلّ ما سوى الله؛ فلمّا كان ما دون الحق حجاب عنه، وجب على التائب قطع كل الحجب الظاهرة والباطنة في مسيره إلى الله عز وجل: “وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى” النجم، 41.