مسرحية «عقاب جواب» لمحمد علي سعيد في الفضاء الثقافي «فستيف-آر» بسيدي حسين: المسرح محبّة، والمحبّة دواء ...

من منا لم يرسل رسائل الى الله (الاله المتعدد)، من لم يكتب له في سره وعلنه ويسأله عن سرّ وجعه أو سبب سرقة الموت لشخص قريب او محبوب؟

من لم يسال الله مرة واثنتين وألفا عن مرضه المفاجئ او خوف سكنه، كل يكتب الى «إلاهه» بطريقة تشببه وتخصه، لكل الاهه الذي يرى انّه الاقدر باجابته عن اسئلة وجودية يعجز عنها الطبيب احيانا، كما تفعل الشخصية في «عقاب جواب» .
ففي مستشفى للأمراض السرطانية مريض في انتظار نهايته ، يواجه الموت برسائل يكتبها كل يوم إلى الله، صاحب قرار الموت وتحقيق الأمنيات، المسرحية دراماتورجيا لمعز حمزة وتقني اضاءة امين الشورابي وتقني موسيقى رؤوف المثلوثي وموظب عام مراد بن خديجة وانجزن المعلقة خلود عاشور وهي من اخراج محمد علي سعيّد وتمثيل ناجي القنواتي وحمودة بن حسين ومريم القبودي.
نصّ موجع وأداء صادق
ثلاثتهم واحد، ثلاث شخصيات وثلاثة ممثلين يتحركون كجسد واحد، فكرة واحدة متفرعة الى ثلاثة فروع، مريم القبودي وناجي القنواتي وحمودة بن حسين اجساد تحمل فكرة واحدة، جمعهم الشغف بالخشبة والايمان بالنص والعمل المقدّم، تقمصوا الشخصيات إلى حدّ التماهي وكانت حركاتهم دقيقة وكانهم جسد واحد.
في «عقاب جواب» ابدع ثلاثتهم، كل منهم تميز في جزء ما من العمل ولكن لا يمكن الاستغناء عن احدهم مطلقا، تألقوا واقنعوا الجمهور الحاضر فانساب النص بسيطا من قلوب ممثلين يؤمنون بأن المسرح فعل انساني وسؤال دائم عن ثنائيتي الحياة والموت.
على الركح ستجد ذاتك، جزء منك هناك، ربما تتقاسم الشخصية الرئيسية وجع الشيميو وآلام المرض، قد تكون معافى لكنك تشاركه الخوف من ظلم العائلة وقسوتها، او تجدك في المعالجة النفسية التي تبدو جميلة وشامخة لكن شروخا نفسية داخلية تسكنها قد تتشارك معها ذاك الوجع الخفي، قد تجد نفسك عند الطبيب ذاك الذي درس سنوات كثر ونهل من العلم كثيرة لكن الم مريضه يضعه في خانة من الوجع حين يعجز عن شفائه وتفشل العملية تلو الاخرى حينها يخرج الجانب الانساني المخفي داخله ويفتح قلبه هو الاخر لمناجاة ذاته ومريضه، الشخصيات تختلف لكنها تتشارك في نقطة «الوجع» الذي ابدع الممثلون في ايصاله الى الجمهور، لينتهي العمل بالاشارة الى حاجة المريض للمحبة قبل الدواء.
أجساد الممثلين حمّالة شيفرات النص:
خلا الركح من الديكور وحدها أجساد الممثلين تحمل رسائل العمل المسرحي وشيفراته،في تماه مطلق مع عناصر السينوغرافيا خاصة الاضاءة والموسيقى، فالاضاءة في العمل تكاد تصبح شخصية، هي الفاصل بين المشاهد والافكار وهي المعبرة عن دواخل الشخصيات فمتى كانت قاتمة فهي ترمز الى الوجع ومتى أصبحت زرقاء او بنفسجية تكون رديف الأمل الذي تبثه الشخصيات على الركح، الإضاءة في المسرحية تقوم بتقنية «الزوم» على وجوه الممثلين لتنقل للمتفرج ما تقوله العيون وما تنقله تفاصيل الوجه من رمزية للنص وكأنّ المخرج يدعو الجمهور ليقترب أكثر من ممثليه ويكتشفوا مدى صدقهم في الاداء ومدى تلبسهم بالنص والمعنى.
نص كتب بوجع، نصّ مليء بالشجن والنقد، واداء قارب الحقيقة واضاءة وموسيقى تدفعان المتفرج ليصبح جزءا من الحكاية، اختلفت العوامل النفسية والدرامية لتقديم عمل مسرحي «مطروز» بكل دقة.
«عقاب جواب» اسم المسرحية، نقطة البداية تكون بتوزيع الممثلة لرسائل مغلقة داخلها ورقة بيضاء كتب اعلاها ببنت عريض «اكتب» دعوة للكتابة وليشارك المتفرج في المسرحية ايضا، قبل ان تصدح الموسيقى هادئة وتجلس على كرسي بفستان احمر بهيّ، هو لون الحب والانوثة والدم ايضا.
«عقاب جواب» عنوان العمل متكون من مترادفتين من الدارجة التونسية الاولى «عقاب» بمعنى اخر والثانية «جواب» التي تعني الرسالة فالعمل اذن يحمل المتفرج الى «اخر رسالة»، أيّ رسالة؟ ولمن سترسل؟ ومن سيرسلها؟ ولماذا هي الرسالة الأخيرة؟ وأسئلة أخرى تتم الإجابة عنها داخل المسرحية؟
«عقاب جواب» آخر شيفرات الأمل، آخر خيوط الحياة التي يتمسك بها المصاب بالسرطان بعد عجز الدواء عن شفائه، «عقاب جواب» سلسلة من الرسائل يكتبها المريض الى «الله» يطلب منه طلبات كثيرة، وكلما تحقق رجاء ما شعر بنقص الوجع وبين ثنائيتي الأمل والألم يبدع ناجي القنواتي في تقمص الشخصية وتلبّس كل تفاصيلها النفسية والجسدية، الأداء الصادق والتماهي مع الشخصية كان من نقاط قوة العمل المسكون بالوجع.
تتصاعد الاحداث وتتفرع من قصة المريض الى قصص المحيطين به، فينقد العلاقات الاسرية المتشعّبة وينقد العلاقة العمودية بين الطبيب ومريضه والوضعيات المزرية في المستشفيات والاغتراب النفسي والجسدي الذي يعانيه المريض والعديد من العادات السلبية التي يمارسها الانسان تجاه انسان اخر يشكو من مرض.
من وجع «الانا» ينطلق وجع «المجموعة» ومن وسط الوجع يولد نص مسرحي يجمع السخرية والنقد، عمل مسرحي عماده ممثلون أدائهم مبهر تقمصوا ادوارهم إلى حدّ الصدق والاقناع فكان العمل بمثابة «الرجّة» التي توقظ المتفرج من سباته ويتساءل هو الآخر عن الرسائل التي يجب ارسالها أولا الى الله، تلك الرسائل التي تصبح ديكور في العمل المسرحي تتدلى من السقف ناصعة البياض كأنها مسحة أمل ترسم في سماء الموجوعين والمقهورين.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115