كتاب رغبة بيضاء لوحيدة المي: الدولة كما الغول تسرق أحلام ابنائها وتدفعهم الى الموت البطيء

يصنعون الاحداث ويحركونها، هم سكان الهامش والهامشيون، ربما لن تكتب اسماؤهم في كتب التاريخ لكن اقلام الأدباء تلتقط قصصهم لتصنع منها الياذات

روائية وسردية تحول فكر القارئ الى المهمشين فيعيد الإنصات اليهم من جديد ويتامل وجوههم المصفرة والكادحة وأفكارهم المخزنة داخلهم وقضاياهم التي يحملونها على ظهورهم كما يحمل المظلوم وزر ظلمه؟
وفي «رغبة بيضاء» تقترب وحيدة المي من فئة من المنسيين، تختار شخصياتها الروائية بعناية فيسهبون في السرد ليحملوا القارئ الى عوالمهم، والرواية صدرت عن «دار الكتاب» ومنذ الغلاف الخارجي تحمل قارئها الى عوالم من الجدران المغلقة والحكايات التي تسكن دماغ الانسان فتحوله الى مريض نفسي يهرب من الخوف الى الموت.

في السياسة القمعية الجميع متهم
تتعدد الشخصيات في الرواية لكنها تشترك في فكرة «الهامش» و»الظلم» الأبوي والعائلي والمجتمعي والسلطوي، شخصيات وحيدة المي جزء من الذاكرة الجماعية للمجتمع التونسي، شخصياتها تنطلق من ذاكرة «نبهان» لتتعدد وتتفرع الى شخوص تفرع المكان الى أمكنة أخرى.
في الرواية الشخصية الأساسية شخصية «نبهان» السجين السياسي الإسلامي «صدفة»، يستحضر قصته كاملا ويسردها بأسلوب ممتع وهو الأعمى المرمي في ماوى للعجز، يحاول «نبهان» ان يتحسس الامكنة ويصنع عوالم الحاضر انطلاقا مما خزنته ذاكرته قبل فقدان البصر « طويت الملفات مرة اخر خطوة بالرواق،وطويت من جديد في مكعب الظلام، منذ فحصني الطبيب لم اخضع للفحص، لم انل قطرة دواء واحدة حتى احكم الغلاف الاسود سمكه على بؤبؤي واستسلمت لجرعة ظلام زائدة» (صفحة128).

«نبهان» حلقة من المجموعة، فاصلة في جملة عنوانها اعتداءات السلطة على الطلبة والجامعة واعتقالات بتهمة «التفكير» نبهان لم يكن فعلا صاحب قيمة أو فكرة بل وجد صدفة في محيط المعركة الدامية فاعتقل واقتيد إلى الزنانين وتعرض للتعذيب والسجن بتهمة «مخالفة النظام»، سنوات القمع والتعذيب أفقدته البصر هي عاهة من عاهات كثيرة حصلت للشباب الذي أوقف واعتقل وبعث إلى الجنوب التونسي تحديدا منفى «رجيم معتوق» (ذوق المنفى ذوق، يا مسافر صوب الجندية ومقيل في رجيم معتوق باسم المدرج والكلية» كما تقول الأغنية التي تردد الزنازين صداها.
«رغبة بيضاء» هو عنوان الرواية والرغبة البيضاء هي سبب سجن نبهان واعتقاله فالرغبة الجامحة التي سكنت قلبه العاشق لحبيبته وزميلته «ريحانة» دفعته للجلوس في المدرج حيث انطلقت المعركة «الصدفة من اقحمتني في تلك المواجهة الدامية مع فرق النظام العام، عندما انزوينا اسفل الدرج المعشب في ذلك اليوم، وهو المكان الذي التقيته فيها منذ تعارفنا، خلع قلبي جبته وعمامته، ازهر وجهها كزهرة البابونج الساحرة،دفعتني بقوة تعدّل ثوبها، ركضت صاعدة في اتجاه الساحة الفسيحة، كانت حينذاك المواجهة دامية بين البوليس والطلبة، هكذا فجاة سقطت بينهم»، الصدفة التي دفعت بنبهان الى المعركة حولته الى سجين تسلب حريته وهو انموذج عن الكثير ممن اكلت الزنانين سنوات شبابهم فقط لوجودهم صدفة في المكان الخطئ.

المهمشون يصنعون حكايات الاوطان:
يتداخل السياسي بالاجتماعي، رواية مكتوبة بطعم الظلم والقهر والخوف، كل الشخصيات تعيش حالة من خوف وانفصام بين الموجود والمنشود، جميعها اشتركت في الوجع الذي تسببت فيه أولا السلطة الابوية ثم السياسية، فنبهان دفعه جبروت والده إلى الخوف والانكماش على ذاته حد انعدام شخصيته وبمجرد وصوله إلى الجامعة ومعايشة لحظات حبّ سرقت السلطة شبابه وسنوات عمره بالسجن والتعذيب.

«ماجدة» أو (بياف) هي الاخرى ضحية النظام فالمجتمع، ضحية دفعة ثمن انتماء والدها الى الحزب الدستوري وايمانه بصالح بن يوسف «اقنعت نفسي بعد انطواء، وتأنيب ضمير ان البلد الذي عشت فيه الجحيم،مات فيه والدي وشرّدت عائلتي لن يسعني من جديد، فلا مكان لي على ارصفة تلطخت بدماء ابنائها لأن ادراءها السياسية تتعارض مع النظام الحاكم» صفحة 94، متاجدة هربت من حجيم الوطن بعد تعذيب الوالد لترتمي في حضن ظلم المجتمع و»الخطيئة» وتعمل راقصة في ملهى ليلي، هى تعبتر الرقص مهنة وهم يسمونه فعل فسق وفجور، في استحضارها لذكريات العمل والملهى تفتح قلبها وتحدث ذاتها عن خوفها من سن اليأس وخوفها من رفض المجتمع ليكون الرقص ملجأ كلما شعرت بخوف مرضي «»سنوات وانا ارقص في قلوبهم، انقر عقولهم بكعبي العالي وخلخالي، افرك جلدهم بنظراتي الماكرة،ارمح عيونهم الممتلئة اشتهاء حتى تنكسر بين النهدين والخصر،ثمّ الملمني في غرفتي بالمرقص»، ليكون المآل الاخير هو المأوى المجهول لصاحبته غير المعلومة.
«وديان» شخصية ثالثة هي ابنة غير مرغوب بوجودها هي الاخرى تقطن الماوى وتعمل مرافقة حياة، شابة حالمة وطموح لجئت الى المكان غير المرغوب فيه فقط لتهرب من الاخرين والمجتمع.
«رغيبة بيضاء» رواية مكتوبة بحبر القلب هي محاولة للبحث في الهامش وتسليط ضوء الكتابة عمن يصنعون تاريخ البلاد بدمائهم وافكارهم لينتهوا الى «حفرة» منسيين، رواية تهتم بالمهمشين وتقترب من قصصهم لتعيد كتابة التاريخ كما تراه الروائية بحبكة درامية وسردية مختلفة.

• من الرواية:
• الظلم عدو قاهر شربته حتى شرقت اهانة وتشفيا في نفسي الامارة بالسوء، تلك الزبانية المسلطة علينا لتعذيبنا هي سيف الحق المسلط على المارقين هكذا كان يقول ابي رحمه الله كلما تأخرت في اداء صلاتي او انشغلت عن التسبيح بالاستماع الى الشرائط المسجلة» صفحة 118
• «في ذلك اليوم اكل الغول اولاده، انقلب النظام على اخوان الداخل، اندلعت الثورة الاسلامية في ايران، بعدها بسنتين تم اغتيال الرئيس المصري انور السادات وفي الفترة نفسها اندلعت الثورة الاخوانية، بذلك انتشر الخوف من تغول الاسلام الجهادي، فاليسار الثوري لم يعد وحده مصدر الخطر وهو ما ساهم في تاجج الخوف في الأنظمة واندلاع الحرب على الجامعات» صفحة 122
• «من يتلمس طريق الفن يفتح نافذة جديدة، تتسع السماء لخطواته، لا تجعل خطواتك تقيدها المسافة، بقدر ما يكون الفضاء أمامك رحبا تتحرر الخطوة لتصبح قفزة» صفحة51
• «هل فكرت يوما في فكّ حزامك او الاستنجاد بمنديل رأس للرقص؟ كم مضى عليك من الوقت لم ترقص فيه، لم تحرر حركاتك وتطلق جسدك ينساب ويتماوج ويهتزّ ويرتفع في كل اتجاه؟ هل ذقت حلاوة الاسترخاء بعد تاهب جسمك واستنفر وافرز هرمون الاندرينالين؟ حتما لتا، وحتما انك من اولئك المغفلين بغلاف السيليكون المشدودة أعناقهم إلى السماء أو المدفونة رؤوسهم بين ارجلهم» صفحة98
• «امنح جسدك الفرصة، فك قيوده اجع عضلاتك ترتخي وتتقلص، قلبك يستقبل بشكل اسرع كميات اوفر من الدم، لا تهتم بارتفاع حرارتك ولا انقطاع انفاسك، سلم نفسك للرقص بعدها ستشعر براحة كما لو انك مارست تمارين اليوغا، أنت مدعو بكل بساطة لوليمة الرقص».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115