كتاب الأحد: «أنا وظلال» لبرهان اليحياوي: «الوطن الذي لا يكون فيه الإنسان أولوية ليس وطنا»

«مؤلم ان تشعر ان ماكتبته سابقا وناديت به علانية لم يؤثر الاّ في مشاعر القارئ، مؤلم ان تدرك انه لم يغير شيئا على ارض الواقع

ولم ينقذ حياة الناس من موت تربص بهم وطاردهم في الجبال والشعاب، وحتى داخل منازلهم «اكتب ما تريد، قل ما تريد، اما نحن سنفعل ما نريد» ، مؤلم احساس الصحفي حين يشعر بالعجز امام وجع ابناء شعبه وصمّ السلطة لاذانها واغلاقها لعينيها عن الحقيقة.
ألم سكن برهان اليحياوي ولازمه فحوّله الى الكتابة، عالج الوجع بسيلان القلم وجرأة الحرف، وحول قصصه اليومية اثناء التغطية الصحفية للاحداث المتسارعة حينا والرتيبة احيانا الى وجع جماعي يتشاركه والقراء ليواصل الصدح بالحقيقة التي ولدت مع «ظلّال» في كتاب انا وظلال الصادر عن دار زينب للنشر في 120صفحة قسمت الى حكايات منفصلة.
«ظلال» صوت الصحفي المكتوم
«يداهم ظلال عالمي دون اذن، صوت بعيد حارق، يخرج كالحمم من باطن الارض، ماء عين بكر تفيض وسط حقول تجاهد القحط» هكذا وصف الكاتب ظلّاله فداخل كل انسان ظلال هي مرآته، ذاك الصوت الخفي الذي نريد كتمانه احيانا، وظلال برهان اليحياوي ولد مسكونا بالوجع منهكا بقصص الفقراء والباحثين عن بصيص الامل في مدينة تريد التخلص من رائحة الموت «الموت يا صاحبي اخر تجليات الحياة، صورة مشوهة منها يشاركها صناعة العدم».
«انا وظلال» هو عنوان الكتاب هو عبارة عن يوميات ومقالات صحفية كتبت باسلوب سردي مختلف، طتابة لا يمكن حبسها ضمن جنس ادبي محدد لانها كما الخوف من الكوفيد يسكن الجميع وينسحب بمجرد خبر بسيط، منذ العنوان نجد تداخل «الانا» السالرد او الكاتب مع «الهو» (ظلال) كلاهما يصبح حاكيا وناقلا للاحداث، الاول الصحفي ينقلها بدقة، يقدم المعلومات واضحة عن المدينة والكوفيد والازمة الصحية وازمة السميد ويتجول بين ربوع القصرين ليقدم معلومات صحفية، اما الحاكي الثاني فهو الخيال، يخرج من تلك المعلومات الحقيقية مسحة من الخيال ينثرها بين السطور فتقرئ بشغف وتصلك المعلومة بكل بساطة.
وهذا التشظي نراه منذ الغلاف تاتي صورة الكاتب مقسمة وموزعة على كامل المساحة وخلفها كلمة «كورونا فيروس» بأحرف فرنسية مشتتة هي الأخرى وكأنه يريد ان ينقل قارئه الى ما عاشته مدينته ولازال يعيشه العالم من تشتت وعزلة بسبب هذا الفيروس.
«أنا وظلال» يوثق رحلة الكاتب الصحفي خلال فترة الحجر الصحي الشامل الذي عاشته البلاد التونسية، فبينما يستكين الشعب الى خلوته في منازله تجنبا للخطر كان الصحفي يجوب الشوارع الفارغة ويطرق ابواب مراكز الحجر والإيواء والمستشفيات كما يقول حسام بنحمودة في تقديمه للكتاب المسكون بالحقيقة والخيال، ينطلق من أزمة الكوفيد لنقل ونقد واقع جهة القصرين فيكتب عن الإرهاب وازمة السميد والنساء العاملات وكل المواضيع التي يشاهدها صحفي في عمله الميداني اليومي فولد ظلال متنفسه يقاسمه وجع المكان والوطن.
بين وجع الوطن وتهميش المواطن تستكين السلطة
يتبع برهان اليحياوي صحبة ظلال قصص المتعبين من فيروس الكورونا وفي الوقت ذاته المتعبين من جور السلطة والتهميش الذي يعانونه منذ عقود، يستمع لحكاية سفيان اول مصاب بالفيروس في ولاية القصرين، العامل اليومي الذي احاله الفيروس قسريا على البطالة، سفيان يخبره ان الم الفيروس لا يماثل «شعور كهل اربعيني بالانكسار، بعد تحجّر كفّ يده من تاثير البالة، ليصبح كفه اقرب الى قطعة اسفلت صلبة، بعد ان حطّم الاخر أظافرع وجرّحت الحجارة كل اصابعه» (صفحة 36)، سفيان حلقة في سلسلة البطالة المنتشرة التي يعيشها شباب المناطق الريفية في ولاية القصرين يحاول الكاتب تتبعها ليخلص بصوت ظلال ان «الموت ليس اسوأ ما يمكن ان يحدث للرجال».
من سفيان المسجون في سجن البطالة و مركز الايواء الى احلام المسجونة بين جدران اشد صلابة، احلام التي تخرج من جناح النسوة يوميا بالسجن المدني بالقصرين لتعمل طيلة ساعات وتصنع الكمامات اذ «استطاع السجن رغم قيوده وزنازينه ان يخرح زمن الجائحة انبل ما يوجد في الانسان» ، فاحلام تثبت ان ليس كل سجين اسيرا فداخل السجن نزلاء يتطوعون لصناعة الكمامات وخارجه بؤساء مقنعون برداء الثورية يتمعشون من صنع الكمامات لتحسين شروط جشعهم اللامتناهي.
«ظلال» في الكتابة هو مرآة الكاتب، صوت المخنوق داخله بسبب حياد الصحفي يريد اخراجه بوجه اخر، ظلال هو الحقيقة الساكنة داخل الانسان يغلق عليها ابواب مقفلة ويمنعها من الخروج، ظلال يكون صوت الوطن والارض ويغني «نا الى يقولو عمري اكثر من 8000 سنا، نا الي عايشة غادي، ونطلّع في الروح هنا، نا الي تغرست وسط الارض، ونا الى طرت في الهوى، نا الي نشبه للمطر، كيف هبطت على الصحراء من السماء» و «النا» هذه يقصد بها المراة العاملة وارواح الكثيرات التي شربتها التربة بعد حوادث الموت الكثيرة التي اصبحت مادة اعلامية تؤثث البرامج دون تغيير فهؤلاء النسوة يوميا يركبن شاحنات الموت لاجل الاجر الزهيد.
رغم الكورونا لم تنطفئ اخبار الارهاب في القصرين وفي كتابه يتحول الى منزل الراعي المغدور خالد الغزلاني شقيق الشهيد العسكري سعيد الغزلاني الذي استشهد منذ عام برصاص من استوطنوا الجبل، تجار الموت لم يمنعه الوباء من مواصلة حصد ارواح الرعاة بتهمة الوطنية.
يواصل اليحياوي تتبع القصص والحكايات التي تسكن هاجس العمل الصحفي، ينحاز الى ابناء مدينته يذكر الدولة بتقصيرها تجاه مواطنيها، يعاود السؤال عن الماء الصالح للشراب و الطرق المعبدة والكهرباء وتجهيز المستشفى، كلها امنيات يحبرخا وظلاله علّ السلطة تستجيب ذات يوم وتلتفت الى مواطنيها.
• من الكتاب:
- «تتواصل مأساة سكان كل هذه المناطق المتاخمة للجبال وكانها بقيت لوحدها تكابد حربا على الارهاب، بالاضافة الى وضعيتها الاجتماعية» صفحة 86.
- «هم المخيرون بين الموت جوعا اذا لم يرعوا اغنامهم ولم يحصلوا على بعض الحطب من الجبل، او الفناء بالغام وخناجر الارهاب اذا هم جازفوا بالتوغّل في عمقه» ص87.
- «الموت في مجال الحرمان مصنع احزان يختلف جذريا عن الموت في بقية العوالم» صفحة 117.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115