في كتاب «للسجن مذاق آخر» لأسامة الأشقر: توثيق لعذابات الأسرى وإبداعاتهم.. وكشف لكواليس حروب الظل

بقلم: عزيز العصا (فلسطين)
إن أسرانا وهم يكتبون تجاربهم ويوثقونها، يحوكون من عذاباتهم وآلامهم وأوضاعهم والمذاقات التي تجرعوها من الأكثر مرارة في تاريخ البشرية،

بساطًا واسعًا شارك فيه نحو مليون فلسطيني، يبدو جميلاً؛ لأنه مشبع بالإرادة والصمود والقدرة على المواجهة التي أدّت إلى إحقاق الوجود والهوية الفلسطينية على الأرض، رغم أنف قوى دولية وإقليمية اجتمعت على محو الشعب الفلسطيني وإنشاء الدولة العبرية على أشلائه.
أعرف «أسامة الأشقر» كاتباً ومفكّرًا جريئا؛ لا يخشى جدران السجن الشاهقة والسميكة، ولا سوط السجّان؛ فيصدح برأيه بين الحين والآخر، من خلال «منار خلاوي» التي اختارته زوجًا، رغم المؤبدات الثمانية التي يعتقد الاحتلال أن أسامة سيقضيها، على مدى المائتي عام القادمة. إلا أن «منار» تراها لحظات عابرة سرعان ما تنتهي، ليعانق «أسامة» الحرية ويعانق شعبه ووطنه الذي ضحّى من أجله، ولينهي أمره بإنشاء أسرة آمنة مستقرة في أحضان أب وأم ضربا مثلًا في أنموذج من الحب قلما يتكرر على مستوى العالم.
أسامة محمد علي الأشقر؛ أسير فلسطيني مولود بتاريخ 14 /08 /1982م، في قرية صيدا الفلسطينية، من قرى محافظة طولكرم، أحد قادة كتائب شهداء الأقصى خلال انتفاضة الأقصى. طارده الاحتلال لمدة عامين؛ 2001 و2002، حتى اعتقله أواخر عام 2002. فحُكِم عليه من الاحتلال بالسجن ثماني مؤبدات وخمسين سنة. أما العمل الأدبي لأسامة، قيد النقاش، فهو كتابه «للسجن مذاق آخر»، الصادر عن الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين، عام 2020.
يقع الكتاب في (172) صفحة ، يتوزع عن جزءين رئيسيين؛ يتألف الجزء الأول من مقدمة و(22) سرديّه، يأخذك أسامة-الأسير في أول (13) سردية منها في جولة مع الاعتقال والتحقيق وغياهب السجن بالمعنى الوحشي واللاإنساني الذي يُمارس ضد الأسرى في أقبية التحقيق.
وتبقى السرديات المتعلقة بالأهل وهي: سردية «الزيارة»؛ كموعد مع حرّيَّة مرّة، وما تنطوي عليه من لحظات تعلو بالأسير وتهبط به بين نشوة رؤية الأهل، والمرار الذي يتجرعه عند مغادرتهم. وفي الحالتين يمتهن السجّان خصوصيات الجميع ويراقبها بدقة. وسردية «الفقدان أو الموت»: وهنا، نتوقف لنشارك الأسير وجع فقد الأم والأب والإبن والإبنة والشقيق والشقيقة والقريب والصديق.... الخ. وفي كل ذلك تأتي الأخبار مفاجئة صادمة؛ تترك أثرًا صادمًا أيضا على الأسير، يصعب نسيانه، مهما طال الزمن.
وفي ما تبقى من سرديات في هذا الجزء يطلّ أسامة-الأسير علينا باسمًا متفائلا، مستنكرًا، بل منكرًا المؤبدات الثمانية، وهو يطمئننا بأن خلف القضبان وفي عمق باستيلات الاحتلال، تربض أسود ترى شعاعًا في آخر النفق المظلم، يوظفونه خير توظيف لتشتيت ظلمة المكان؛ فيبدعون في مواجهة السجّان وكسر قراراته، واختراق تحوّطاته الأمنية القائمة على أحدث الوسائل التكنولوجية المدعومة بأحدث أساليب القمع، فيفرحون، ويتعلمون، ويتحدثون عن مستقبلهم وهم أحرار في فضاء الوطن، إذ يرون في الإفراج حتميّة يؤمنون بها، ويخططون لها بعمق. ويعدنا «أسامة» بأنه عائد إلينا ليبدأ بداية أخرى بمذاق آخر مع منارة الأمل، المتمثل بمنار الزوجة المخلصة التي عقدت قرانها عليه في 16 /11 /2020م، أمام ملايين البشر عبر الفضائيات وبحضور الصفوف المتقدمة من قيادات الشعب الفلسطيني.
أما الجزء الثاني من هذا الكتاب، فقد جاء تحت عنوان «حروب الظل»؛ عرض فيه الكاتب الطرق المختلفة لأجهزة الاحتلال التي ابتكرتها لمواجهة الفلسطينيين داخل سجونها. وقد توزع هذا الجزء على ثلاث محطات: ففي المحطة الأولى يستعرض «أسامة الأشقر» التطورات والتحولات على الحركة الأسيرة على الساحة الداخلية، وما تتضمنه من تباينات واختلافات، وحالات الأسرى القدامى الذين يصبحون في حالة يرثى لها من الإحباط والإرهاق والشك في كل شيء. وتأتي المحطة الثانية الأكثر ايلامًا ووجعًا، لطبيعة موضوعها المتعلق بما تقوم به أجهزة الاحتلال من استغلال لحاجات المرضى والمعوزين والسّاعين لكسب أرزاقهم لتحويلهم إلى فخاخ، تُمكّن الاحتلال من الانقضاض على المناضلين في مناطق عملهم.
وأما المحطة الثالثة فإنها تنقلنا إلى خارج فلسطين وشعبها؛ لتشمل دولًا ومجتمعات بعيدة إلى حدّ ما، تمكنت أجهزة أمن الاحتلال من الوصول إليها واختراقها، والتي يصفها الكاتب «حروب الظل الإسرائيلية المتواصلة بلا توقف أو إبطاء» (ص: 169)، كما يجري في إيران وسوريا ولبنان والعراق ومصر ... وغيرها من الأقطار. ولعله من المؤلم أم نجد تلك العمليات تتم بجرأة من أجل اصطياد الأهداف في أي مكان بسهولة ويسر، وتعود الخلايا المنفذة سالمة!
وأنا أغادر هذا الكتاب المشبع بالوجع، وبقليل من الفرح، أعترف بأنه ما من سرديّة قرأتها، إلا وجعلت دم الغضب يجري في عروقي، وجعلت بدني يقشعرّ حزنًا على ما آل إليه واقعنا من أن الأسرى هم الحماة الرئيسيون لكرامتنا، والعنوان الأنقى الذي بقي محفوظًا مصانًا بعذابات الأسرى وصمودهم، رغم القيد، ورغم السجن والسجان.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115