أيام قرطاج السينمائية في السجون: إصلاحية سوق الجديد.. رحلة في الوجدان وبحث عن المعنى

تعجز الكلمات عن وصف ذاك البريق في عيونهم، تصمت الكلمات في رحاب الخوف والامل واللهفة المرسومة على محياهم انتظارا للفرجة، الكلمات وحدها غير قادرة

عن وصف «لمعة» الفرحة بعد العرض، ربما اللهفة للحرية من خلال الفيلم والضيوف او اللهفة لاكتشاف عالم جديد هو عالم السينما ومشاهدة فيلم على شاشة يتجاوز عرضها الثلاثة أمتار في قاعة احترمت كل إجراءات البروتوكول الصحي .
في مركز الإصلاح والإدماج بسوق الجديد من ولاية سيدي بوزيد كان اللقاء مع الأطفال لمتابعة فيلمين هما «فيزا» لابراهيم لطيف و»قصة حقيقية» لامين لخنش ضمن فعاليات أيام قرطاج السينمائية بالسجون، وكانت الفرصة للاقتراب أكثر من أفكار أطفال فقدوا الحرية لحادث عرضي، في إطار شراكة بين أيام قرطاج السينمائية والهيئة العام للسجون والإصلاح والمنظمة الدولية لمناهضة التعذيب في الدورة السادسة داخل السجون.

السينما جسر للحرية ومطية للتعبير
طريق طويلة تسكنها الأسئلة، الانطلاق من العاصمة صباحا باتجاه إصلاحية سوق الجديد، زخات المطر تصنع الموسيقى في الخارج، من تونس إلى دار بلواعر فاولاد عمر فكندار فنصر الله ثم العجابة والكبارة وقطرانة سيدي اللافي والذراع ولسودة وقارة حديد وقارة شوشان وكلما اقتربت الحافة من الوجهة المقصودة تدافعت الأسئلة عن ردة فعل الأطفال تجاه الفيلم، كيف سيكون النقاش اي بريق سنراه في أعينهم، وكيف سيؤثر فيهم الفيلم المعروض وهل سيناقشون ان يلتزمون الصمت واسئلة عديدة تتدافع قبل الوصول الى سوق الجديد ولافتة كتب فوقها بالخط الأسود مدرسة الكرامة بعدها بأمتار مركز إصلاح الأطفال الجانحين بسوق الجديد.
السينما في السجون، رحلة في الوجدان وبحث عن المعنى ، تجربة انسانية تعترف بدور الثقافة في التغيير وقدرتها على إدماج المودع او الحدث، أيام قرطاج السينمائية في السجون تجربة جد مميزة، تلامس انسانية الانسان، داخل السجن او الاصلاحية يجلس الضيف والمودع ومدير السجن في قاعة واحدة ليشاهدوا الفيلم ثم يناقشوه، أفلام جريئة أحيانا وبها العديد من الكلمات التي يعتبرها البعض نابية ولا يمكن التفوه بها امام الملا يشاهدونها ويحللونها في الإطار السينمائي المعروض دون خوف ولا تردد.

تجربة أيام قرطاج السينمائية داخل السجون لبنة اخرى للإبداع ولنحت إنسانية الإنسان وملامسة ماتخفيه النفس البشرية من خوف وتردد ليتحول الى بذرة امل تعيد اليهم الرغبة في الخروج ومعانقة الحياة في الخارج بنظرة مختلفة فالثقافة طريق للحرية وللحلم ولصناعة انسان اخر يقدر على تجاوز الجريمة.
ايام قرطاج السينمائية في المؤسسات السجنية فعل للحياة ودعوة صريحة للحلم و للتغير، حق دستوري في الثقافة ينفذ ضمن ايام قرطاج السينمائية لمشاهدة افلام بجودة تقنية عالية توفرها ادارة السينما من خلال موظفيها و»الماتريال» التقني المحترم جدا فالشاشة تتجاوز الثلاثة أمتار احيانا والقاعة تجهز جيدا بإضاءة تسمح للجمهور بفرجة طبيعية تشبه قاعات السينما المجهزة جيدا.

أمين لخنش يبحث عن الاختلاف ويدافع عنه بالكاميرا
السينما هي كتابة بالكاميرا، مجموعة من الشيفرات تنقلها عدسة المخرج تاركة للمتفرج حرية التفسير وفك الشيفرات حسب فهمه وقدرته واختلافه، في true story تغوص كاميرا امين لخنش في قبح الذات البشرية، ينقد ظاهرة عدم قبول الآخر المختلف عنا، الكاميرا تحمل المتفرج إلى عوالم ربما توجد في الواقع وبعضها متخيل لكن الرسالة توجد فعلا في المجتمع التونسي لأنه نادرا ما يقبل الاختلاف.

«قصة حقيقية» بطلتها فتاة صغيرة ولدت مختلفة، قلبها خارج جسدها، شكلها يمثل خطرا على النسل كما اعتقدت خالتها التي جسدت الشخصية لبنى نعمان، الخالة تؤمن انّ قبح الفتاة نتيجة سحر اسود فتجلب مئات العرافين عربا وافارقة وشيوخا ليحاولوا مداواة الطفلة وادخال القلب الى داخل الجسد لتبدو طبيعية مثل الجميع، الطفلة التي منذ الولادة الى عمر الثمانية عشرة عاما محبوسة داخل غرفة بين الدجالين والسحرة والعرافين والفراغ في الذاكرة البصرية عبر عنه المخرج بمشاهد عديدة بيضاء تنقل وسط المشاهد وكانها محاولة للدخول الى ذاكرة الطفلة ونقل الفراغ الذي يسكنها.
«قصة حقيقية» فيلم بتقنيات عالمية، أبدع في أمين لخنش صحبة الممثلين في نحت صورة سينمائية مميزة تخيف وتطرح العديد من الأسئلة والإشكاليات، فيلم يجعل المشاهد يقرر الوقوف للحظات أمام مرآته ليسال نفسه عن الشيطان داخله، ويتساءل هل حقا «هناك شيطان يحركنا نحو الشرّ، أم نحن من نصنع هذا الشيطان ونرعاه ثم نقول ابليس النزيس»، الفيلم كما المرآة التي تنقل قبح الإنسان أمام ذاته والآخرين ، صورة ركبها امين لخنش بمشاهد بطيئة أحيانا ومتسارعة حينا آخر وبياض وفراغ بين المشاهد مرات وجعل الآخر «الشيطان» دون ملامح ولا صوت واضح وكانّه الصورة المشوهة للإنسان التي ابدع في تجسيدها.
الفيلم ربما انطلق من قصة خيالية ولكنها تتماهى مع الواقع، بعد العرض وفي حلقة النقاش اجمع الاطفال على رفض المجتمع لفكرة الاختلاف بالقول « تلك الطفلة المنبوذة تشبهنا لان المجتمع التونسي يرفض تشغيل من خرج من الاصلاحية او السجن بتعلة (الى غلط مرة ينجم يعاود)».

صلاح الشرقي مدير مركز إصلاح الأطفال الجانحين
بسوق الجديد:
نحن نحب الحياة ونشجع على الفنون
سعيد جدا بهذه التجربة وسعيد لان الإدارة العامة للسجون اختارت إصلاحية سوق الجديد لتكون ضمن مسار ايام قرطاج السينمائية، يقال أن من يحب الحياة يذهب إلى السينما ونحن نحب الحياة ونمقت فكرة الموت واجزم انّه لا يوجد شخص لم يؤثر فيه فيلم او أغنية او مشهد وايمانا بقيمة الثقافة في مساعدة الطفل وإدماجه اخترنا أن نقدم لهم مجموعة من الورشات والنوادي.

في الحقيقة التجربة السينمائية جديدة عليهم فأطفال الوسط الريفي هنا محرومون من الفعل الثقافي ولا يوجد عندهم ثقافة التعامل مع الثقافة ووجود أيام قرطاج السينمائية اليوم في سوق الجديد يعتبر حظا وفرصة كبيرة لهم.
اعتقد أن العمل الثقافي يؤثر في الانسان ووجود الثقافة في المؤسسة الإدماجية حتما سيساعد الأطفال على التفكير وربما يفتح لهم شهية الابداع لذلك نوفر لهم نادي موسيقى ونادي مسرح والنادي بصدد انجاز عمل مسرحي يشارك في المسابقة الرسمية التي تنظمها ايام قرطاج المسرحية وكذلك نحاول استضافة بعض الفنانين ليقدموا ورشات للاطفال علّ فكرة الإبداع تعطيهم فرصة أخرى للتفكير وتزرع فيهم الأمل وحبّ الثقافة وحبّ الحياة.

أمان الله لسود المنظمة الدولية لمناهضة التعذيب:
النشاط الثقافي داخل السجون «الحبل عالجرارة»
صرح امان الله لسود ممثل المنظمة الدولية للتعذيب لـ«المغرب» بالقول «التجربة ليست وليدة اليوم، انما نعمل منذ اعوام تحديدا منذ 2014 نعمل مع الهيئة العامة للسجون والاصلاح و المركز الوطني للسينما والصورة، المبادرة خرجت من ابراهيم لطيف واحييه اليوم على الفكرة المميزة، اليوم اصبحت التجربة انسانية ثقافية وجز أساسيا في المهرجان.
مضيفا هذه الدورة الاستثنائية بسبب الكوفيد لذلك قلّ عدد الحضور في القاعة، اليوم مركز الإصلاح يضم 44 طفل فقط لكن سجن سليانة مثلا يضم 500سجين وحضر فقط ثلاثين شخصا للعرض داخل القاعة، هنا سيطرح السؤال هل حرم البقية، وسنجيب بلا، ففي الوقت الذي يعرض فيه الفيلم في القاعة المخصصة هناك العرض داخل الغرف اي ان جميع النزلاء تمتعوا بمشاهدة الفيلم لكنهم لم يتمتعوا فقط من النقاش بسبب البروتوكول الصحي والظرفية الاستثنائية التي نعيشها.

وفي اطار الاستثنائية أيضا كل الأفلام التي عرضت في المؤسسات السجنية تحدث أيضا في تونس الكبرى مثل المرناقية ومنوبة وبرج العامري وبنزرت المدينة وبرج الرومي والناظور في كل يوم في نفس الوقت يتزامن العرض في الغرف مع العروض في القاعات ونريد ان نمس عشرة الاف مودع ليشاهدوا السينما في مهرجان السينما حسب تعبيره.
ويشير امان الله لسود ان التجربة تطورت وربما العلاقة مع الإدارة والسلطة أصبحت اكثر مرونة من الدورة الاولى، بنيت علاقات صداقة بين جميع الشركاء فالمهرجان خلق نوع من الصداقة بين المنظمة و الاعوان والعمل اصبح اسهل وجميعنا اصبح يفكر في كيفية تمتع اكثر عدد ممكن بالثقافة، اسوق مثال الفيلم الذي عرض في سجن سليانة بحضور مدير السجن ومسؤولين عن هيئة السجون، الفيلم جريء جدا ولكن النقاش كان جد مميز والتحليل الذي انجزه الاعوان والمودعون صورة لو سالت عنها قبل 10اعوام لقلت مستحيل ان تحدث.

تدعيم المكتبات السجنية وبالتنسيق مع مبادرة لينا بن مهنى، واصلنا في التجربة ووزعنا اكثر من 30الف كتاب وفي كل عام نقوم بدورات تديبية للاعوان المهتمين بالمكتبات بالتعاون مع المديرة العامة للمكتبة الوطنية سابقا و التجربة تتواصل طيلة العام، اصبحنا نشارك في معرض الكتاب دوريا والجميل ان منظمة مناهضة التعذيب وهيئة السجون والاصلاح نتشارك جناحا واحد ونعرض انجازات المودعين في كل الفنون وتوضع ايضا طريقة لعرض «مذكرات المساجيمن» تقرا بطريقة الكترونية معروضة للعموم وهذا يعدّ فعلا دفاع عن الانسان وابداعاته.

كما اصبحت المنظمة شريكا في ايام قرطاج المسرحية منذ الدورة الفارطة، هناك نوادي الموسيقى في العام الفارط شاركت فرقة الموسيقى ببرج الرومي في مدينة الثقافة و نادي موسيقى سجن منوبة في الملتقى العالمي لهيئات الوقاية من التعذيب وشاهدوا ابداعات مودعات منوبة وكان العرض حقا ممتع، فالفنون تقدر على تفتيت كل جدران الخوف.
بالاضافة الى مشروع الرسم و عرض اعمال المساجين في المؤسسات الثقافية و الجديد هو انجاز دورات تدريبية في كيفية تسيير وتوزيع النشاط الثقافي ودراسة المشاريع داخل المؤسسات السجنية.

ويختم محدثنا بالقول في سجوننا «موش ملايكة» لكن هناك نشاط ثقافي مميز هناك ابداعات اصبحت تظهر للاعلام و للعموم ولازلنا نحارب الخوف والجريمة ببالثقافة ولازالنا نصنع الحلم ونحاول ان يصبح واقعا للمودعين.

طارق الفني المسؤول عن النشاط الثقافي في الهيئة العامة للسجون:
تمتيع المودعين والاحداث بحقهم الدستوري في الثقافة
أكد طارق الفني في تصريح لـ«المغرب» أنّ تجربة السينما في السجون غايتها تمتيع المودعين والاحداث بحقهم الدستوري في الثقافة مضيفا بالنسبة للاشرطة التي تعرض يتم اختيارها على ان تكون اشرطة تتماشى مع افكارهم واعمارهم ويكون فيها رسالة، الاطفال هنا بعضهم اول مرة يشاهد شريط سينمائي بطريقة تقنية محترمة خاصة لغياب ثقافة الفرجة والذهاب لقاعات السينما، و هي فرصة ليمارسوا الفعل الثقافي ويعرفوا قيمة السينما ويفهموا ان السينما جسر من جسور الحرية، الأفلام تكون مدروسة وبها العديد من الرسائل الايجابية للاطفال لنغيرنصحح فكرة او مفهوم خاطئ يسكنهم احيانا حسب تعبيره.

ويخصوص جديد الدورة يقول طارق الفني بالنسبة لهذه الدورة الجديد يتمثل في وجود ورشات في الكتابة السينمائية ،و بمناسبة المهرجان أردنا ان نؤسس لنوادي كتابة وسينما في اطار الاتفاق مع الادارة العامة للسينما والصورة لننجز برنامج طول السنة لنركز النوادي في السجون ومراكز الاصلاح، نادي كتابة السيناريو وكيفية انجاز شريط ثم تدخل تجربة التصوير، وللتذكير سبق وان جربنا الإنتاج السينمائي داخل الوحدات السجنية في الأعوام السابقة وقدمنا 23 فيلم قصير انجز داخل الوحدات السجنية وصوره مودعين وتمت العروض في قاعة سينما الريو ، التجربة لم تتواصل ولكن نامل بعد تركيز نوادي السينما اعادة هذه الفكرة المميزة ونعممها، و في قفصة انجزنا نادي صورة بالشراكة مع مندوبية الثقافة وعلموا المودعين كيفية التصوير والمعرض تجول في كامل تونس، المبادرات موجودة لكنها غير متواصلة لكن نسعى الى المأسسة ليعم اكثر الفعل الثقافي.

بالاضافة الى السينما تخوض نوادي المسرح بالمؤسسات سجنية تجربة فنية مميزة في الاعوام الاخيرة هي تجربة «مسرح السجون» ويتحدث عنها الفني قائلا: منذ التسعينات والمسرح موجود في المؤسسة السجنية، كانت التجارب بوادر شخصية من المختصين في المسرح ابناء الادارة والان اصبح في حلة اخرى، مضيفا تقريبا 28عمل مسرحي سنشارك به في ايام قرطاج المسرحية النوادي مركزة في جميع المؤسسات السجنية، الكثير من منخرطي النوادي اكتشفوا ذواتهم في الكتابة او الرقص المسرحي والغناء واكتشفوا انهم فعلا مبدعين.

ويختم محدثنا تصريحه بالقول الغاية من الانشطة محاولة ادماج بعض المودعين ثقافيا، نبحث عن وسيلة ليمارسوا الفعل الثقافي بعد انتهاء مدة العقوبة، ندعو الجمعيات والمنظمات تأخذ المبادرة بعد الافراج خاصة المودعين المبدعين، واليوم هناك اتفاقية مع مراكز الفنون الركحية والدرامية لاستقطاب بعض المودعين المتميزين بعد الإفراج عنهم ليمارسوا مهنة المسرح وطرحنا أيضا فكرة بطاقة الاحتراف حتى يدمج في الحياة الاقتصادية والثقافية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115