الجميع عن حقوق الراقصين المسلوبة وإبداعاتهم المنسية دعوها تصدم المتفرج بقبحه وبشاعة مواقفه حين يصمت عند غلق فضاء ثقافي ثم يتساءل عن سبب انتشار «الجهل» و «الجريمة»، اتركوا اجسادكم تصدّع رؤوسنا بالحقيقة دعوها تأخذنا من صمتنا ووزرنا وترمينا في نار الحقيقة لعلّ القلوب المغلّفة والعقول المسكونة بالصمت تتحدث وتزيح ظلام الخنوع وتنحاز للثقافة والفن والحياة.
هكذا هي رسالة «بونداج» العرض الكوريغرافي الذي احتضنه فضاء التياترو مساء الثلاثاء 1ديسمبر وهذا العمل من اخراج امال العويني وادارة فنية لاوس ابراهيم وسينوغرافيا لصبري العتروس وموسيقى مروان مرنيسي واداء امال العويني وسارة المقدم وقيس بولعراس وصورة وفيديو لغسان قاسم.
ارقص وليكن جسدك حمّال شيفرات الامل
الرقص لغة الجسد الصادقة، الرقص اول لغة نطق بها الانسان، الرقص هو اللغة المتماهية مع المشاعر فالجسد ينكمش على ذاته اثناء الحزن ويقفز في الفرح ويصدر حركات متعددة مثل المشاعر وانطلاقا من قيمة لغة الجسد وصدقها انطلقت الكوريغراف امال العويني في عملها الجديد «بونداج».
لغة الجسد تحمل الكثير من الرموز لغة تجعل المتفرج يعمل العقل قليلا لتحليل الحركة والغاية منها، فالجسد يفتح للمشاهد الحرية للقراءة والتاويل عكس النص المنطوق أحيانا وانطلاقا من الاسم هناك العديد من الرمزيات، فـ«البونداج» الكلمة المعرّبة تعني ذلك الشريط الابيض الذي يوضع فوق الاصابة عادة، لكن في المعلّقة التي انجزها قيس مليتي اختاروا ان يحيط الشريط الطبي الابيض بكامل الوجه وكأننا امام انسان أجريت عملية جراحية على وجهه وينتظر نزع «البونداج» ليعرف النتيجة كذلك هو الفنان الراقص في تونس يتعب كثيرا اثناء التدريبات، يخطط، يكتب، يناقش يفكر ويحول افكاره الى حركات ثم يترك للجسد حرية كتابتها الى لغة راقصة قبل ان يعرضها على الجمهور ويسقف للحظات ينتظر ردة الفعل.
وتلك الرهبة التي يستشعرها الفنان تشبه كثيرا رهبة المريض لحظات قبل ان توضع امامه المرآة ليرى وجهه بعد العملية وكأننا بالكوريغراف تقول انّ ولادة عرض راقص صعبة جدا ودقيقة وتتطلب الكثير من التركيز والحرفية تماما كالعملية الجراحية.
في رمزية الاسم ايضاّ، العنوان كتب بالاحرف اللاتينية BAND AGE والإسم المكون من جزئين في العربية يعني «الفرقة المحترفة» فالعنوان يضع المتفرج اذن امام فرقة راقصة محترفة تقوم بالتدريبات على عملها الجديد، لتجدك وانت تتابع العمل امام فرجتين الاولى موجهة لجمهور حاضر هو جمهور التياترو يتابع عرضا مساء يوم شتوي في قاعة احترمت داخلها اجراءات التباعد، والفرجة الثانية موجه لجمهور متخيّل، لان العرض عبارة عن «برايف» لعمل كوريغرافي يستعد لتحضيره ثلاثة راقصين يخططون، يتناقشون الافكار، يجربون الموسيقى ويدرسون الركح، حدّ القول في «الفينيش» (صبري 5 دقايق ونرجعوا» ليعودوا بعدها بثوان ويقدمون التحية للجمهور.
فآمال العويني وقيس العتروس وسارة المقدمي يدفعونك عنوة لتكون جزءا من الحكاية، تتابع وبانتباه شديد تدريبات عمل فنّي ما، تتابع الحركات الوليدة والافكار التي تتكون تدريجيا لتتحول الى فعل راقص، تنتبه الى الموسيقى والحركة والخطى ثمّ طريقة إصلاحها حديثهم لحظة الراحة، الكوستيم المرمي في كلّ مكان، الاوراق المتناثرة تحمل هواجس الراقصين وكتابة العمل، كل تفاصيل ولادة العمل الكوريغرافي تنقل للمتفرج في عمل حمل اسم «بونداج».
ويصرخ الجسد بما تعجز عنه الكلمات
عرض داخل العرض، جمهور واقعي وآخر متخيل، القاعة قاعتان أيضا فالبونداج يتفرع الى افكار وحركات هكذا هو العمل الوليد، ثلاثة كوريغرافيين ينحتون تفاصيل عملهم الجديد تحتد الاراء إلى حدّ الاختلاف والصراع احيانا، يحدث الخصام ثم الصلح، تجريب للحركة مع الموسيقى والضوء كلها تحصل اثناء التدريب وفجاة يدخل شخص ما بلباسه الانيق ومحفظته العريضة ليعلق ورقة ما على الجدار مكتوب فوقها «تنبيه هام» ، صاحب البدلة الانيقة لا ينطق بكلمة لكن مظهره يحيل انه عدل تنفيذ و الورقة تنبه بإخلاء القاعة لان صاحب العقار باعه لمالك اخر، يقرؤون ما كتب ومعها تحدث موجة الغضب التي تتحول الى حركات راقصة.
فالفنان عموما والكوريغراف خصوصا قادر على تحويل المشاكل البى طاقة للابداع من وسط الظلمة والخوف يصنع لنفسه عالم خاص يحول فيه السواد ضياء، المجموعة تواصل التدريبات وتواصل التدريبات وتواصل الرقص وكان الانذار موجه لأشخاص غيرهم، بالجسد اذن يوصلون اصوات الكثير من الحالمين، العديد من الفنانين الذين اجّروا فضاءات وبعثوا في جدرانها الحياة ولكن المالك يرغمهم على المغادرة لتحويلها الى مقر تجاري او «حانوت شباتي» كما حدث «لسينما باريس» ببنزرت منذ أعوام.
فمن خلال «البونداج» تقع محاكمة يتعرض له الفنان من انهاك وجراح ووجع نتيجة التدريبات لانجاز عمل فنّي ما، كلّ هذا التعب لا يعرف قيمته المالك ويكتفي فقط بتنبيه لاغلاق الفضاء الثقافي، في «بونداج» ينقل الراقصون صرخاتهم المكتومة يحاولون بأجسادهم ايصال نداءات الفنانين للسلطة لتلتف لأصحاب الفضاءات الخاصة، يحاولون نزع غشاوة الصمت عن اعين المواطنين علهم يعرفون قيمة الفضاءات الثقافية والورشات في تعليم ابنائهم قيم المواطنة وحمايتهم من خطر الشارع والجريمة، كل النداءات التي تسكن الفنان ينقلها قيس بولعراس وامال العويني وسارة مقدم بأجسادهم، فالأجساد تصرخ للحلم وتتجاوز كل اللغات المنطوقة والمكتوبة لتطالب بمزيد الانتباه للفنان وتدعوا السلطة إلى الاعتراف بمهنة الرقص.