مع حكايتك وحكاية رهف» هكذا تعتذر الكاتبة لشخصياتها، نفس الاعتذار يمكن كتابته بعد اتمام قراءة الرواية والشعور بالعجز عن نقل مشاعر الخوف والبؤس الذي عانته شخصيات الرواية ويعانيه مئات المهاجرين غير الشرعيين الذين يلفظهم البحر كلّ مرة جثثا هامدة واحلاما مسروقة.
كلّ هذه الاعتذارات جزء من رواية «شطّ الارواح» لامنة الرميلي، الرواية الصادرة حديثا عن دار محمد علي للنشر، وقد جاءت الرواية في 270 صفحة ومقسمة الى 14فصل حيكت باسلوب روائي ممتع، الرواية تشبه الصرخة التي يطلقها الانسان كلما يتعثّر بجثة على الشاطئ، الرواية- الاستقصائية تتبع حكايات المهاجرين وتبحث في اسباب هروبهم من الوطن الى البحر.
من لعنة الصحافة الى لعنة الكتابة:
«شطّ الارواح» رحلة نسوية أخرى تقودها امنة الرميلي، هذه المرة اختارت أن تكون بطلتها صحفية واعطتها اسم «باهية» جعلتها سيدة الموقف وصاحبة القرارات أول الرواية ثمّ تركتها لمهب رياح الخوف والضياع والحيرة والشكّ وكان الروائية تحاول أن تخرج ما يخفيه الصحفي داخله من رغبة متوجسة في ايجاد الحقيقية.
في «شط الأرواح» يتداخل الواقعي بالخيالي، فالمقبرة «جبانة الغربة» موجودة فعلا في جرجيس، لكن التفاصيل التي نقلت على لسان «باهية» من خيال الروائية، وشخص «شمس الدين مرزوق» البحار الذي كرس حياته لدفن الجثث التي تقيّاها البحر هو شخص حقيقي من جرجيس لكن «خير الدين المنسي» شخصية متخيلة «دفنت مئات الجثث، وعرفت مئات الحكايا والحقائق والاعاجيب وشققت التراب بلا هوادة أواري سوأة اناس لا اعرفهم، لا اعرف منهم الا جثثهم تناديني؟ او اناديها سيان لأحفظ كرامتها من التحلّل تحت الشمس، الانسان انسان ما لم يتحلل جسده تحت الشمس، ما لم تسل سوائله وتنفقس عيناه فوق الارض وليس تحتها» (صفحة27).
والمهاجرون الذين قابلتهم الصحفية في المحمية قد لا يكونون ليسوا حقيقيين ولكنهم يشبهون الكثير من الأشخاص الذين اكل الازرق احلامهم « ايّ بؤس هذا؟ يضعون كلّ شيء في هذا المتوسط المتوحّش؟ ارواحهم واحلامهم واوراقهم وصور اطفالهم؟» (صفحة161) ، هؤلاء المهاجرين الهاربين من جحيم الحروب الاهلية في افريقيا « كان ينبغي ان نخرج من تشيبوك، الارهابيون يعربدون في البلدة وهجماتهم على المدارس تتكاثر، ونحن عائلة مسيحية في مقاطعة مسلمة في غالبيتها، وفولامي تدرّس الفرنسية في مدرسة البنات» (صفحة11) او الفارين من بؤس داعش «الدم في كلّ مكان، راسي مغروس في بركة دم، وهو يهتزّ فوق جذعي ويحمحم باللذة، اركع في دمي، اصلي لربي الا يعبروا للغرفة الأخرى حيث يختفي ابنائي الثلاثة، اصلي لربّ لا ادري ان كان سيقبل صلاتي، لانّ مغتصبي ايضا يرفع ربّه عاليا وهو يهوي على رقبة زوجي فيذبحه صارخا: يا كافر...»(صفحة110) وبرودة المخيمات في سوريا وليبيا «استحضر صو مخيمات اللاجئين من فلسطين الى جنوب تونس، تأكلني شهوة الشتم، امة الخيام والاوتاد، الظهور المحنية المستعدّة على الدوام للرحيل والشتات، الشعوب الملعونة من بداية الخليقة، لعنتهم ابدية مثل عطبهم الابديّ» (صفحة140).
بين الخيال والواقعي تقترب امنة الرميلي من خلال باهيتها اكثر الى الشخصيات، تعايش الباحثين عن شعاع أمل في اروبا «، الذين يأتون محمّلين بالأحلام ويتركون خلفهم الكثير من الوجع فتستقبلهم مافيات التهريب والبحر بموجه وخوفه ويكون ملاذهم الأخير «شط زرزيس» يدفنون فيه فرادى وجماعات.
كل هذه القصص الراقصة بين الخيالي والوقاعي تبدع امنة الرميلي في نسجها، تارة تستعمل الحوار المباشر وطورا الماضي وتجبر القارئ على العودة الى صفحات سابقة ليفكّ الشيفرات والالغاز، رواية بطعم الغموض تشبه كثيرا قصص المهاجرين وسط البحر «البالوعة» كما تصفه، تضعك احيانا في مواجهة الحقيقة عارية تتلمسها وتسمعها ومرات تجدك تدفع عنك كوابيس الغموض علّك تستشف الخبر اليقين بين الأسطر
في شطّ الارواح تبد الروائية في السرد، تغوص في التفاصيل وتدخل الى أغوار الكتابة تتلاعب بالمشاهد وتبعثر الحروف والصور كطفلة صغيرة تتفن في ترتيب كلمات لعبة «البوزل».
«الحرقة» من المسؤول؟ من يسرق الأحلام البحر أم البشر
«شط الأرواح» الرواية التحقيق، هي محاولة استقصائية أو طعم تضعه الروائية أمام القارئ خاصة من الصحفيين ليبحث عن حقائق المهاجرين غير الشرعيين والأفراد والمجموعات المسؤولة عن تهريب البشر وبأسلوبها لسردي والحكائي الممتع يسهل ابتلاع الطعم لتبدأ الأسئلة وتتدافع الأفكار عمن يهرّب؟ من المسؤول؟ من يسرق اعضاءهم احيانا قبل الدخول الى البحر؟ هل شبكات التهريب أفراد ام جماعات؟.
أسئلة كثيرة تطرحها «باهية» انطلاقا من الاوطان القاسية، الوطن الذي تصفه الكاتبة على لسان طبيبة سورية فتقول « الوطن جعلنا منه قصعة مملوءة بالبزار والدم وتحلقنا حوله نأكل بنهم عجيب، وحين لم نشبع تقاتلنا بالملاعق حتى انهينا بعضنا بعضا، تركنا الوطن قاعا يصفّر فيه الريح» (صفحة185).
هذه البشاعة هي قليل مما يعانيه المهاجرون، هي قليل من الجحود الذي تقدمه البلدان إلى أبنائها، في الرواية يكون الوطن بمفهومه الواسع هو المتهم الأوسع بسرقة احلام ابنائه، فسوريا شردت أبناءها ودفعتهم إلى الخيام لحرب خاسرة ونيجيريا «عملاق افريقيا» « شساعة أراضيها، بحار النفط التي فيها تعوم، أرقام احتياطيّها من الغاز المدوّخة، بلد مثل هذا يهيم ابناؤه على الحدود وتبتلعهم بحار الدنيا غرباء ياكلهم الخوف والجوع» (صفحة 103) .
تتواصل الاتهامات والأسئلة ولان الشخصية الرئيسية صحفية تضيق الزاوية أكثر وتنحصر الاتهامت في المجتمع من جهة، فالمجتمع بقسوته العنصري هو من يدفع «زهرة شوشان» ابنة جرجيس الى قلب البحر حاملة معها صورة وليدها الذي حرمت منه فقط لانها «سوداء» تزوجت من ابيض وموضوع العنصرية لازال يطرح في تونس وقد تطرقت إليه آمنة الرميلي لتكون نهاية زهرتها الموت ومالها في جبانة الغربة في قبر وشاه خير الدين المنسي باللونين الأبيض والأسود «قصة جرجيسية مؤلمة، عشقها ابيض وعشقته وهي السوداء، كانت تبيع الخبز على الشطّ لتجمع ثمن الحرقة، خير الدين غلّف قبرها بالاسود والابيض، قال: لا جمال لاحد اللونين الا بحضور الاخر» (صفحة263).
لازال للأسئلة باب ولازال البحث عن الحقيقة يغري بإعادة القراءة فلآمنة الرميلي طريقتها في كسب فكر القارئ، في «شط الارواح» توجه اصابع الاتهام لذوي الأسنان المكسورة، تلك الصفة المشتركة بين مهربي الارواح «» السن المكسورة علامة يستدل بها مهربّو الأرواح على بعضهم بعضا» (صفحة168) وتضيف الكاتبة في الصفحة نفسها «لا شيء واضح غير هذه السن أو تلك منزوع بشكل او باخر يجعل البسمة في هذه الأفواه مثقوبة ثقبا مخيفا...اتنبه الى حضور اعلام مختلفة تحت كل صورة، أعلام تونسية وايطالية وتركية وفرنسية وصومالية ويونانية وجزائرية ومغربية وسينيغالية».
أصحاب الأسنان المكسورة أو «ضبّاع الشط» و «مهربو الأرواح» بعضهم ينتمي الى الدولة فبعد 264صفحة وأخر الفصل قبل الأخير تصدم الرميلي قراء الرواية بجملة « سي علي؟...والله كان رجلا طيبا، سمح الضحكة والبسمة حتى عاد يوما وقد كسرت احدى اسنانه الامامية» (صفحة264) فالكاتبة هنا على لسان احدى شخصياتها تتهم بعض موظفي الدولة في الاضطلاع في عمليات التهريب وتفتح باب السؤال من جديد.
شطّ الارواح رواية مسكونة بالبحث، اسئلة دائمة؟ وبحث لا يقف عن مهربي الأرواح ومحاولة جديدة لفتح نوافذ الحقيقة.
الرواية بطعم العلم والخوف:
رواية بطعم العلقم، إحساسك قبل قراءة الرواية لن يظل كما هو بعد قراءتها، سيسكنك شعور بالغبن والخوفّ، مرارة في الحلق وآهة تخنق نفسك، شيء ثقيل يجسم على صدرك، كوابيس باهية ستسكنك، وربما أن تكون صحفيا سيكون الشعور اكثر وطأة لانّ الرغبة في إيجاد الحقيقة وإيصال حكايات الاخرين تسكن كلّ صحفي.
أثناء وبعد قراءة شطّ الارواح سترى انك بشري قبيح، ستتفتح عينيك اكثر على حقائق مزعجة، سترى في وجوه الطلبة الأفارقة المارين أمامك الكثير من الحكايات ستنصت أكثر لسخرية الشارع منهم وما يقولونه عنهم ستبعث بشيفرات تطلب فيها العذر منهم ومما يقال ومما يتعرضون له من عنصرية
في الشارع ستعترضك صرخات «فاطوماتا» كل امرأة افريقية تسمعها تتحدث بلغتها تستحضر صورة «بيانكا» تبكي اخويها «كاتو وفولامي»، ستتساءل وحدك لم نحن بهذه القسوة؟، هل نحن عنصريون؟ متى سمعت طالبا إفريقيا يضحك وهو يتحدث في هاتفه الذكي مع عائلته ستأتيك صورة «شانجو» هادئا مبتسما ليخبرك ان في هذه الأرض تونس كان عبدا
وستجدك أمام صورته مقرفصا يمدّ صحن «الكسكسي» لسيده التونسي، طالب العلوم الرقمية هرب إلى تونس ليدرس جاءها محملا بالأحلام ولكنه وجد نفسه عبدا يبيعه سيده من ضيعة إلى آخر.
وانت تستحضر «شط الأرواح» سيسكنك خجل شديد من أصدقاءك السوريين، ستشعر بالبرد يتغلغل في عظامك يسكنها يزعجك كما أزعج نجود السورية الطبيبة الهاربة من جحيم داعش والإرهاب، يكفي أن تتذكر انّ أبناء وطنك كانوا بأعداد هائلة في سوريا وكانوا أبشع القتلة وتستحضر انّ نجود هربت منهم لتجد نفسها ضحية متاجري الأرواح على احدى الشطوط التونسية لتشعر بالخجل من عينها المشروخة ونظرات الطفلة رهف الخائفة من اغتصاب آخر.
أن تكون صحفيا فتلك مأساة اخرى أثناء قراءتك لرواية شطّ الارواح ولان الكاتبة جدّ عادلة في توزيع ثروات الخوف والبؤس لم تقتصر اشخاصها او شخوصها على الأفارقة والسوريين والليبيين فللتونسيين نصيبهم من العذاب ولهم نصيبهم من ملح البحر فتاتيك حياة التونسية، حياة التي لم يمنحها اسمها شيئا، ابنة بلدك يصبها السرطان ولعجزها عن المداواة في وطن يأكل أبناءه ستلجئ إلى البحر علها تصل إلى أوروبا أين وعدت بوجود دواء للسرطان الذي نخر الجسد قبل الروح.
من الرواية:
ليس للحقائق وجه واحد كما نعتقد،كل حقيقة هي مجموعة من الحقائق، كل حقيقة منها تكذب الاخرى، لذة الحقيقة في تقلبها الدائم وقد تنقلب بعد لحظة وقد تنقلب بنا بعد قرون، وهل تثبت حقيقة فوق كوكب يدور بنا كالمجنون؟ (صفحة 146).
تضعني هذه المهنة الكلبة في افواه المدافع غالبا، تختبر حوّاسي وجسدي اختبارات قاسية» صفحة 150
«زهرة شوشان يا ابنة الغروب الحلو وزهرة مسك الليل، ما الذي طوّح بك داخل البحر وخارجه؟ ومن رماك في مركب الموت من على شواطئ ليبيا؟ كان الحرس يقلب اوراق الباسبور الاخضر بحروفه الذهبية اللامعة «الجمهورية التونسية» (صفحة164).
« السن المكسورة علامة يستدل بها مهربّو الارواح على بعضهم بعضا» 168
«لا شيء واضح غير هذه السن أو تلك منزوع بشكل او باخر يجعل البسمة في هذه الافواه مثقوبة ثقبا مخيفا...اتنبه الى حضور اعلام مختلفة تحت كل صورة، أعلام تونسية وايطالية وتركية وفرنسية وصومالية ويونانية وجزائرية ومغربية وسينيغالية» 168
تعرفون حياة المخيّم؟ تعرفون معنى أن تعيشوا الشتاء في مخيم...»ان يفصل لحمك عن سكاكين البرد سقف من الخيش، أن يندسّ لحمُك في أعماق لحمِك بحثا عن قطرة دفء فلا تجد غير الرجفة بعد الرجفة والعضّة بعد العضّة، صدّقوني للبرد في المخيم أنياب ومخالب خبرناها على حدود سوريا والأردن وتركيا واليونان، ونحن نفر من مخيم الى مخيم بحسب ما تقرر البنادق والمدافع والصواريخ» (صفحة 177).
«يعودون بلا احتجاج يعودون، يعودون هادئين صامتين، انتهت الرحلة، تمت الحكاية، نام الرواة، تناديني روائحهم المتعفنة، اجدهم دائما في انتظاري، قد تسبقهم فردة حذاء او قبّعة سوداء او بيضاء او ملوّنة، اراهم يعبرون الموج في سكون، يتقلبون في الماي او يقلّبهم دون ان يردّوا عليه بضربة ذراع او بدفعة قدم،فقط يتقدمون في صمت حتّى يرتموا متعبين مستسلمين في مكان ما من الشاطئ» صفحة 179