في الفترة الموحدية ثم الحفصية، ويتصل ثانيهما بالظهور المنتظم للطريقة القادرية في شكل فضاءات اجتماعية روحية هي الزوايا، وبروز المريدين والمشايخ القائمين على أمر هذه الزوايا.
ففيما يتعلّق بالبعد الأوّل، كانت المجموعة التي تحلّقت حول الغوث أبي مدين (ت594هـ/1197م) - الذي تلقّى أسرار الطريق الصوفي على الشيخ عبد القادر الجيلاني وألبسه الخرقة - كانت في الأصل امتدادا للجيلاني، وتثبيتا لمبادئ طريقته، ومن أبرز رجال هذه المجموعة سيدي عبد العزيز المهدوي (ت621هـ/1224م) وأبو يوسف يعقوب الدهماني (ت621هـ/1224م) وأبو سعيد الباجي (ت 628هـ/1231م) وأبو علي النفطي (ت610هـ/1213م) وأبو محمد صالح بن محمد بن عبد الخالق التونسي، والطاهر المزوغي السافي (ت 646هـ/1248م) وأبو عبد الله محمد الدباغ والد مؤلف كتاب «معالم الايمان في معرفة صلحاء القيروان» وكذلك كتاب شوارق أنوار القلوب. وقد ظهر هذا التأثير في الامام أبي الحسن الشاذلي (ت656 / 1258م) الصوفي الكبير
والمطالع لأحزاب أبي الحسن الشاذلي وأوراده يلمس حضور صيغ الشيخ عبد القادر الجيلاني في توحيد الله وبيان حقيقة وجوده، وحقيقة الذات المحمدية وصلتها بالحقيقة الكلية، كما أنّ سنّة الدعاء للشيخ عبد القادر الجيلاني عند إقامة الأذكار والأوراد الشاذلية دليل على الاعتراف بدور الجيلاني في اكتمال صرح الطريقة الشاذلية. وطبعا لا ننفي اطلاع الشاذلي ومن قبله أبي مدين على إحياء علوم الدين للغزالي واستلهام جوانب من أدبيات التصوّف الواردة فيه.
أمّا الظهور المنظّم للطريقة القادرية بتونس في فضاءات روحية (زوايا ومقامات) خاصّة بها فإنّه بدأ في فترة حديثة نسبيّا، إذ تردّ بعض الدراسات تأسيس أوّل زاوية قادرية بتونس إلى سيدي أحمد التليلي (ت1763م) بفريانة خلافا لما ذهب إليه البهلي النيال في الحقيقة التاريخ للتصوف الإسلامي والتليلي العجيلي في رسالته الجامعية «الطرق الصوفية والاستعمار الفرنسي بالبلاد التونسية (1881 - 1939)» من اعتبار أوّل زاوية قادرية أسسها محمد المنزلي (ت1832) بمنزل بوزلفة، بدعم من حمودة باشا الذي كان أوّل أتباعها.
فلقد وجدت القادرية في تونس انتشارا واسعا بين أهلها منذ القديم وولعهم بسرد أخباره، وترديد مناقبه. ومباشرة بعد ظهور الزاوية التي أسّسها الشيخ أحمد التليلي بفريانة (الوسط الغربي بالبلاد التونسية) توجّه الشيخ أبو الحسن علي بن عمر الشايب في أوائل القرن التاسع عشر، وكان من جملة محبي الشيخ عبد القادر إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، فتعلّقت آماله بأخذ الطريقة القادرية عن الامام أبي عبد الله الذي كان شيخا لها آنذاك ومتّصلا بأسنادها. وفي مناسبة ثانية، وبعد أنّ شرع الشيخ علي الشايب في بناء زاوية للطريقة بمدينة منزل بوزلفة، وافته المنيّة فأتمّ بناءها واحد من أبرز كبار مريديه وهو الإمام محمد المنزلي (ت1248هـ/1832م)، وقد اضطلعت هذه الزاوية بتدريس القرآن واللغة العربية، ولاتزال قائمة إلى اليوم وتقام بها مجالس للذكر وتلاوة الأوراد القادرية.
وفي الأثناء ظهرت الزواية القادرية بالعاصمة، وهي المصطلح على تسميتها بزاوية الديوان، وقد أسّسها محمد الميزوني سنة 1267هـ/1850م، وستنتشر بعدها زوايا عدّة بالعاصمة لعلّ أبرزها زاوية باب سويقة التي تولّى مشيختها الشيخ بوبكر القادري (ت 1930م) ثم ظهرت في الفترة ذاتها زاوية نفطة التي ستتفرّع عنها زوايا قفصة وتوزر وسيدي بوزيد، وأبرز أعلام هذه الزاوية الشيخ سيدي إبراهيم بن أحمد الشريف (1812 - 1875) وهو من أغواث الطريقة القادرية وإليه تنسب الأسرار، والمعارف الذوقية العالية، وتروي حفيدته السيدة مريم الشريف أنّه كان غوثا في الطريقة لمدّة ثلاثٍ وثلاثين سنة. وقد تولّى مشيخة الطريقة بعده ابنه سيدي محمد العربي الشريف (ت1855م) الذي عرف بصلاحه وسعة علمه. وفي فترة
لاحقة ظهر سيدي أبو القاسم الشريف إلى أن كان ظهور سيدي محمد الجيلاني الشريف (ت1977) ودفن بمقبرة سيدي بوزيد، وكان رجل علم وصلاح وصاحب هيبة كبيرة يستغيث به الناس ويجدّ في قضاء حوائجهم. أمّا في أيّامنا هذه فيتولّى مشيخة الطريقة سيدي حمّه المكي بزاوية نفطة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الطريقة انتشرت انتشارا واسعا بالبلاد التونسية، وكثر عدد مريديها مقارنة بالطرق الأخرى التي ترجع إليها في الأصل. ففي سنة 1925 بلغ عدد مريدي الطريقة القادرية 681. 117, وبلغ عدد زواياها 109 زاوية منها في بنزرت 6 وفي قرنبالية 14 وفي سوسة 11 والكاف 4 وتالة 7 وصفاقس 5 وقفصة 2 وقابس 4 وجربة 1.