الرمضانيّات: العشر الأواخر تجدد أشواق العابدين (1)

في العشرِ الأواخرِ من رمضانَ لا تهدأُ أشواقُ الموفَّقِينَ إلى الجنَّةِ، ولا يهدأُ سعيُهُم الطهورُ رغم أن الأبدانَ بدأتْ تشعرُ بالإرهاقِ

وشيءٍ من الضعفِ، ولكنَّ السلعةَ غاليةٌ، والثمن مهما كان مرهِقًا فهو بالنسبة لها غير مكافئٍ بكلِّ المقاييس؛ لهذا تنشطُ الأبدان، وتغمرُ هِمَمَ الطائعين لواقحُ مباركةٌ من المثابرةِ والجدِّ وطولِ المِرَاسِ.
 

وفي العشر الأواخر تتجددُ أشواقُ السائرين إلى اكتناز الأجورِ الغاليةِ المتبقيةِ من رمضان، كأنَّ طاقةً جديدةً قد تولَّدتْ لديهم وهم يقاربون على الوصول إلى منتهى الطَّريق، فزادت همَّتهم، وأُوقدت - من جديدٍ - عزيمتُهم، فلا تراهم إلا حافِلينَ بتنظيم شعث النَّفس، وضَبْطِ الخُطى في ميدان العبادة على صِرَاطٍ مستقيمٍ من الجد والمثابرة واليقين.
 وكيف لا وقد كان هذا هو حال القدوة الكبرى لهم سيِّدنا محمد صلى الله عليه وسلم؟ فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنها قالت: «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يجتهدُ في العشر الأواخر، ما لا يَجتهد في غيره»؛ صحيح مسلم 1175

 ومن صور اجتهاده صلَّى الله عليه وسلم أنه كان يُحيي الليلَ بالعبادةِ، ويوقظ أهلَه، ويعتزلُ نساءه، كما أخبرَتْ أمُّ المؤمنين أيضًا: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليلَ، وأيقظ أهلَه، وجدَّ وشدَّ المئزر»؛ صحيح مسلم 1174، وبمثل ذلك أَخبر عليُّ بن أبي طالبٍ رضي الله تعالى عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشرُ أيقظ أهلَه، ورفع المئزرَ، قيل لأبي بكرٍ: ما رفع المئزر؟ قال: اعتزل النساء»؛ مسند أحمد 2/ 250، وقال شاكر: إسناده صحيح.

 ومع تَلَمُّسِ مذاقِ طعوم العبادات بالبدن والقلب ونَيل المنى مِن نفحاتها، يزدادُ المؤمن على مولاه إقبالًا يزيد النَّجِيَّ تآلفًا، والبعيدَ تلطُّفًا، وتسافرُ الأشواقُ بالقلوبِ حتى تهيمَ حولَ عرشِ الرحمن في رحلات إيمانية متنقلة بين غُدَوِّها وروَاحِها، وضُحاها وأصائِلِها، ولياليها الحِسان.
 فتارةً يأنسُ بالذِّكر والوصلِ بعد الفجر؛ حتى ينال أجرَ الحجِّ والعمرة المبشِّرَ به قولُ النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: «مَن جلس يَذكرُ اللهَ بعدَ صلاةِ الفجرِ حتى تطلُعَ الشمسُ ثم يصلِّي ركعتينِ، له أجرُ حجَّةٍ وعمرةٍ تامَّتَينِ».

 ومن بعدها الحرص على صلاة الضحى بانتظامٍ يُنبئ عن حُسن إيمان؛ فقد قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لسيدنا أنس: «يا أنسُ، صلِّ صلاةَ الضُّحى؛ فإنَّها صلاةُ الأوَّابينَ» ابن شاهين في الناسخ والمنسوخ 209 بسندٍ صحيحٍ عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، ومن حديث عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلَّم أتى مسجدَ قباء، فإذا قومٌ يصلُّونَ صلاةَ الضُّحى، فقالَ: «صلاةُ رغبةٍ ورَهبةٍ، كانَ الأوَّابونَ يصلُّونَها حينَ ترمَضُ الفصالُ» [الذهبي في تاريخ الإسلام 37/ 219، وقال: حسن ثابت الإسناد عن عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما.

يتبع

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115