ثم بمطالعة ما يعمل، والإشراف عليه ومراقبته ثانيًا، ثم بمحاسبته ثالثًا، ثم يمنعه من الخيانة رابعًا، فكذلك النفس يُشارِطها أولاً على حِفْظ الجوارح، ثم ينتقل بعد ذلك إلى مراقبتها والإشراف عليها، فإذا وجد منها نُقصانًا انتقل إلى المحاسبة، ثم بعد ذلك يَستدرِك هذا النقصان حتى لا تتمادى عليه نفسه.
ويوضِّح لنا الغزالي في الإحياء حديثًا مع النفس لهذه المشارطة والمحاسبة فيقول: «يقول - أي العبد - للنفس: ما لي بضاعة إلا العمر، ومتى فني فقد فني رأس المال، وهذا اليوم الجديد قد أمهلني الله فيه وأنساني أجلي، وأنعم عليَّ به، ولو توفَّاني لكنت أتمنَّى أن يرجعني إلى الدنيا يومًا واحدًا حتى أعمل صالحًا، فاحسبي أنك قد تُوفِّيت ثم قد رُدِدت، فإياك ثم إياك أن تُضيِّعي هذا اليوم، فإن كلَّ نَفَس من الأنفاس جوهرة.
ويحك يا نفس! إن كانت جرأتك على معصية الله لاعتقادك أن الله لا يراك فما أعظم كفرك، وإن كان مع عِلْمك باطلاعه عليك فما أشدَّ وقاحتك وقلة حياءك.
أتظنين أنك تُطيقين عذابَه!! جرِّبي إن ألهاك البَطَرُ عن أليم عذابه فاحتبسي في الشمس، أو قربي أصبعك من النار.
ويحك يا نفس! كأنك لا تؤمنين بيوم الحساب، وتَظُّنين أنك إذا متِّ انفلتِّ وتخلَّصت وهيهات!
أما تنظرين إلى أهل القبور، كيف كانوا؛ جمعوا كثيرًا وبنوا مشيدًا، وأملوا حميدًا، فأصبح جمْعهم بورًا، وبنيانهم قبورًا، وأملهم غرورًا.
ويحك يا نفس! أما لك بهم عِبرة؟! أما لك إليهم نَظرة؟! أتظنين أنهم دُعوا للآخرة، وأنت من المخلَّدين؟ هيهات هيهات، ساء ما تتوهَّمين!
أما تخافين إذا بلغت النَّفْس منك التراقي؟!
فانظري يا نفس بأي بدنٍ تقفين بين يدي الله، وبأي لسان تُجيبين، وأَعِدي للسؤال جوابًا، وللجواب صوابًا.
واعملي في أيام قِصار لأيام طوال، وفي دار زوال لدار مُقامة.
أعملي قبل ألا تعملي، وتقبَّلي هذه النصيحة، فإن مَن أعرَض عن الموعظة فقد - رضي بالنار -وما أراك بها راضية».