النبويّات: أنتم أعلم بشؤون دنياكم (2)

لم يُرِدِ النبي صلى الله عليه وسلم صرف المسلمين عما هم فيه من طريقتهم التي يعرفونها في تلقيحهم للنخل، وإنما كان ذلك اجتهاداً

منه في أمر من أمور الدنيا، ربما يصيب فيه أو لا يصيب، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في رواية طلحة بن عبيد الله: «إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإنى إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذونى بالظن»، فالصحابة غلطوا فى ظنهم أنه نهاهم بوحى، ثم بيَّن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذا حدثهم بوحي عن الله تعالى فإنه لن يخطئ فى هذا الوحي، ولذا قال لهم: «إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإنى لن أكذب على الله تعالى»، والكذب هنا بمعنى: الخطأ، أى: فلن أخطئ فيما أُبَلِّغ من وحْي الله تعالى، ولا يصح أن يكون المراد حقيقة الكذب، لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم منه، حتى ولو حدَّث عن غير الله تعالى، ولذا قال صلى الله عليه وسلم في حديث رافع بن خديج: «إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشئ من رأي فإنما أنا بشر».

قال المناوي في شرحه لهذه الأحاديث»إنما أنا بشر» أي واحد منهم في البشرية، ومساوٍ لهم فيما ليس من الأمور الدينية، وهذا إشارة إلى قوله تعالى «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ» الكهف: 110، فقد ساوى البشر في البشرية، وامتاز عنهم بالخصوصية الإلهية التي هي تبليغ الأمور الدينية، «إذا أمرتكم بشيء من دينكم» أي إذا أمرتكم بما ينفعكم في أمر دينكم «فخذوا به» أي افعلوه فهو حق وصواب دائما، «وإذا أمرتكم بشيء من رأيي» يعني من أمور الدنيا»فإنما أنا بشر» يعني أخطئ وأصيب فيما لا يتعلّق بالدين، لأن الإنسان محل السهو والنسيان ومراده بالرأي الرأي في أمور الدنيا».

فنبينا صلى الله عليه وسلم معصوم من الخطأ فيما يبلغه عن الله عز وجل، بخلاف غيره من رأيه في أمر من أمور الدنيا الذي يحتمل الصواب وغيره، فالمسلم يعتقد ويؤمن بعصمة والأنبياء والرسل، وأولهم وأفضلهم نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن ثم يجب الحذر والانتباه غاية الانتباه لمن يُريد أن يطْعن ويشكك في السنة بقوله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يُخْطئ في أمور الدنيا، وأن بعض الأحكام الشّرعية التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم هي اجتهادات شخصيّة قابلة للصواب والخطأ، فهذا ادعاء كاذب وشبهة واهية، ولذا قال الله تعالى»وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى» النَّجم 4:3، قال البغوي: «يريد لا يتكلم بالباطل». وقال السعدي: « أي: ليس نطقه صادرا عن هوى نفسه «إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى» أي: لا يتبع إلا ما أوحى الله إليه من الهدى والتقوى، في نفسه وفي غيره. ودل هذا على أن السُنّة وحي من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: «وَأَنزلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ» النساء:113 ، وأنه معصوم فيما يخبر به عن الله تعالى وعن شرعه، لأن كلامه لا يصدر عن هوى، وإنما يصدر عن وحي يوحى». وقد قال الله تعالى»وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» الحشر:7. قال ابن كثير: «أي: مهما أمركم به فافعلوه، ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمر بخير وإنما ينهى عن شر». ويقول النبي صلى الله عليه وسلم»إني قد تركتُ فيكم ما إن اعتصمتُم به فلن تَضِلُّوا أبدًا ، كتابَ اللهِ ، وسُنَّةَ نبيِّه» رواه الحاكم 

فالسنة النبوية هي سفينة النجاة وبر الأمان من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق، قال الزهري: «كان من مضى من علمائنا يقول: الاعتصام بالسنة نجاة»، وقال مالك: «السُنَّة سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق».. وأما قوله صلى الله عليه وسلم»أنتم أعلم بأمر دنياكم» فَبَدَاهة لا يكون في الدين والشرع، والواجبات والمحرمات، والمراد: أنتم أيها الذين تلقحون النخل ومن على شاكلتكم من أهل الصناعات والزراعات والمهارات والخبرات أعلم بصنائعكم منى، قال المناوي في فتح القدير»أنتم أعلم بأمر دنياكم» مِنِّي، وأنا أعلم بأمر أخراكم منكم، فإن الأنبياء والرسل إنما بُعِثوا لإنقاذ الخلائق من الشقاوة الأخروية، وفوزهم بالسعادة الأبدية».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115