بورتريه: بمناسبة اليوم العالمي للمرأة التشكيلية والخزافة د. عواطف منصور: افتخري فإنّك أنثى ومن خبايا روحك يبعث الكون

امرأة طموح جميلة ثابتة على الحق في الفن والإبداع، فنانة تشكيلية تلاعب اللون والخط منذ النعومة، لامست الطين وعشقته

فصنعت منه أجمل التحف الفنية منذ أن كانت طفلة تلهو حذو جدتها، سحرتها حركة «الخلالة» و طريقة «الغرزة» فعشقت النسيج.
وبين النسيج والخزف كبر العشق والحلم وكبرت معه إرادة تلك الطفلة المشاكسة إلى حدّ الذي اختارت فيه الفنون توجها وطريقة للحياة ومسار إبداعي نحتت تفاصيله الأولى، وهاهي «الأم» الفنانة لازالت طفلة تلاعب الطين وخيوط النسيج وتنسج معها أحلام لا تفنى، وبمناسبة اليوم العالمي للمرأة اخترنا ان تكون ضيفة «البورتريه» الدكتورة عواطف منصور كانموذج للمرأة التونسية الناجحة التي جمعت بين الفن ممارسة وتدريسا مع الكتابة، فنانة تبعث شحنات إيجابية للنجاح وتؤمن انّ الانثى خلقت لتبدع.
الفنّ كبر داخلي منذ النعومة
هادئة الطباع، عاشقة للبحر، ترى فيه شبيها لها، فهي هادئة حينا وتارة تثور أمواج الفن داخلها فتتلاطم الأفكار وتكون نتيجتها عملا إبداعيا ينطلق من الواقع يعبّر عنه، فالفنان ابن يومه وواقعه كما تقول.
جميلة الابتسامة «ابتسامتي اصنع منها عالمي، أرمّم بها وجعي كلما شعرت أنني سأنهك» هكذا تقول وهي تنظر إلى الأفق الممتد قبالة برج الحمامات «مكاني الهادئ فهنا أشاهد تمازج الطبيعة مع سحر المدينة العتيقة، فسيفساء فنية تمتعني».
عواطف منصور الفنانة، الطفلة التي لن تكبر أبدا كما تصف نفسها، تقول انّ الفن حديث الروح، الفن بوح الحالمين وصوت الكادحين، فنّ شعلة للحب، طفولة لا تعرف الكبر، الفن قبس، الفن دين، هكذا تقدم عواطف منصور رؤيتها للفن.
هي «انسانة عادية» كما تصف نفسها، بدأت العلاقة مع في الفن منذ الطفولة، في المدرسة كنت أعيد نسخ الرسومات الموجودة على غلاف الكراس 48، تلك كانت هوايتي الأولى وسرّي الأجمل، قبل أن ينتبه اليّ المعلمون وبدأت رسوماتي تصير محلّ إعجابهم، ثمّ توسّعت دائرة الإعجاب إلى التلاميذ الذين بتّ مصدرهم للرسم وسندهم في التربية التشكيلية، منذ ذلك الوقت كبر الحب وأصبحت العشقة أجمل» بهذه الكلمات تسترجع لحظات الطفولة وبدايات الفنّ الأولى.


منذ الصغر لامست فنانتنا الطين وهي ابنة سيدي علوان تلك المدينة الريفية الحضرية، عشقت رائحته و«طريقة مزج الماء بالطين كانت تحرك أحاسيسي أرى فيها طريقة مختلفة للخلق، كنت شغوفة بالطين، أغوص بمجاميعي في الطين لأصنع الكانون صحبة جدتي التي كانت تخبرني دوما (الطين حبّوا باش يطلع معاك)،
لذلك حين كبرتُ استهواني الخزف وكلما درّست تلك المادة اقول لطلبتي «عندما تحبّ الخزف وتشتغل فيه بحبّ وصدق وثقة سيعطيك كلّ ما تحبّ»، الطفلة في داخلها لازالت تبحث عن الجديد، تلك الفتاة الريفية الهادئة عشقت الفنون منذ النعومة لكنها لم تفكّر بدراسة الفنون يوما بل كان «حلمي ان ادرس القضاء أو المحاماة تلك المهن تشدني أكثر» لكن بتقدمها في الدراسة اختارت شعبة ميزتها الحرية والخلق فاتجهت إلى الفنون رغم معارضة العائلة في البداية، لكن «صوت بداخلي كان يردد مقولة توفيق الحكيم «إنَّ فِي الدُّنْيَا أشْخَاصٌ يَجْرِي في دِمَائِهمْ الفَنْ وهُم لا يشعرون» وأنا اخترت الفن دراسة ومهنة وحلما أعيش تفاصيله مع إشراقة كلّ شمس.
خزّافة ونساجة وأدافع عن هويتي بالفن
خزّافة مميزة، الخزف عشقها الاول، اختصاصها الذي اختارته في الجامعة منذ ان وطأت معهد الفنون الجميلة، «الذاكرة والذكريات ربما، لازلت اتذكر تفاصيل الطفولة وولعي بالطين، في الخزف أجد عواطف منصور، أجد تلك الطفلة أرعاها واهتم بتفاصيلها، انجاز قطعة خزفية يضاهي عملية الولادة، لانك تصنعها من اللاشيء وتجففها في الظل، ثم تنتظر أمام الفرن كيف ستخرج ابنتك، إحساس يجمع الخوف والرهبة تماما كما ولادة الأم لطفلها» هكذا تتحدث بكل الحبّ وابتسامة مرسومة على محياها وهي تغازل قطعة الطين أمامها.
مع الخزف اختارت اختصاص آخر صعب ويتطلب الكثير من التركيز والصبر هو النسيج، النسيج عندها كما الأنثى يحمل معنى الولادة والوجع، فليس من السهل انجاز منسوجة ذات موضوع معين وتركز على التفاصيل بكل دقّة، فالنسيج ايضا قطعة من الروح وجزء من الذاكرة كما تقول لذلك اختارت ان يكون اسم اوّل معرض لها «عشق» وجمعت فيه عشقيها الخزف والنسيج وقدمته في المهدية عشقها الثالث.
فنانتنا اختارت الفنون طريقا للعلم، تردد مقولة بيتر التنبرغ « الفن هو الحياة، والحياة هي الفن، لكن فن الحياة أن تحيا حياتك بفن»، مقولة تعكس في مجملها الفن على انه الحياة، والحياة حسبها أن تجمع الحب والعشق والولادة والابداع، «هكذا هو الفن يسكننا فنسكنه، يحملنا نحو عوالم لامرئية فنجعلها مرئية، يحتمل نوايانا الفنية لتكون رؤيانا التشكيلية، إننا نخطو نحو البحث التشكيلي ونحو إيجاد طريقنا، علنا نجد ذات يوم طريقنا الضال، لا نقول أننا نمتلك العالم ولكن العالم يمتلكنا، عالم الفنّ والبحث الرصين، ولان التجربة أساس المعرفة والمعرفة نتاج التجربة، لهذا سيظل التجريب طريقنا، سنظل نبحث ونجرّب، سنظل نحبّ الخزف، نغازله، فالخزف يختزلنا لنبدعه» حسب تعبيرها، لذلك كلما درّست مادة الخزف تجدها وسط الطلبة تلمس الطين، تلامس تفاصيله وتنهمك مثلهم في صناعة القطعة الخزفية فالاستاذ ملهم او لا يكون.
وعن سنوات الدراسة تستحضر خزافتنا ذكرياتها مع المادة وتقول «من الطرائف، حين كنت طالبة أنجزت العمل المطلوب في الخزف في المبيت، ولشدة خوفي على سلامة القطعة استقليت سيارة تاكسي لكن ومن سوء الحظ وبسبب سرعة السيارة في الطريق تحطمت القطعة، اذكر أنني نزلت في منتصف الطريق، جمعت ابنتي حملتها وأكملت طريقي على القدمين باكية، ومن شدة تعلقي بالعمل وبكائي المرّ أُعجبتْ اللجنة بالعمل رغم تحطمه وانتهيت إلى حبي للقطعة وتحصلتُ على عدد جيد في المادة».
تراثنا سلاحنا الناعم
عواطف منصور،تونسية جدّا، فنانة تؤمن بأن للفن دوره في التعريف بتونس وبتراثها، اغلب أعمالها تنطلق من الواقع وتنتصر للتونسي، تدافع بشراسة عن الهوية التونسية في الخزف والنسيج، حين سألناها عن انتصارها للتراث ودفاعها الدائم عنه أجابت بصيغة السؤال»هل الانتصار للتراث تهمة؟ لا اظنّ، أنا بالفعل منتصرة للتراث، منتصرة لهويتي، لذاكرتي ولمستقبل ابنائي أيضا، أنا فنانة ومن واجب الفنان أن يكون صوت مجتمعه وهويته، الفنان وُجد ليبعثُ الروح في الأشياء المنسية يعطيها من قبسه القليل لتصبح أجمل وتتحول إلى أيقونة فنية، خاصة وأنّ سكان دول العالم الثالث سلاحنا الوحيد هو الثقافة وتراثنا».
تلك الطفلة الشغوفة بالفن، تلك المرأة الملهمة، تلك الحالمة تؤمن انّ الخزف والنسيج التقليدي ذلك الفن الذي عاش وعايش الحضارات لم ولن ينسى وسيبقى متجددا ويواكب العصر وإن هبت عليه رياح التعصير على اختلاف تلوّناتها، «هكذا هو الخزف يراهن على كل عصر ليتماشى معه وهكذا هو الخزاف باحث دائم فنانا كان أو حرفيا أو مصمما، فما بالك لو اتحد الجميع حينها ستكون لنا ايقونات فنية تونسية» لانّ تراثنا قوة ناعمة وسلاح معه يمكن إخراج البلاد من الأزمة الاقتصادية» وعلى سبيل الذكر لا الحصر تحدثت عن التجربة المميزة للخزاف الفنان خالد بن سليمان الذي أصبح علامة في الخزف فقد أخذ القدح او الكأس التقليدي زوّقه بالخط والكتابات ذات البعد الروحي فقدم كأسا عصرية بهوية تونسية وبات علامة فنية مميزة، كذلك التجربة المختلفة للفنان بلحسن الكشو الذي أحيى الذاكرة الشعرية بالخزف في معرضه «انوميا»، الخزف الذي أصبح مطية للكتابة وإعادة الحياة في شعارات الثورة التونسية، فالتراث هنا «جزء منا هو الذاكرة والهوية ولو اتحدّ المصمم والحرفي والاكاديمي لصنعنا «العجب».
الكتابة انثى كذلك
هي سيدة الحلم لأنها أنثى، سيدة الفكرة والإرادة، أن تكوني أنثى وفنانة وناجحة في المجتمعات العربية فذاك أمر يتطلب الكثير من الإصرار والتحدي والصبر لتجاوز كل المعيقات الفكرية والمجتمعية، ولان الكتابة أنثى اختارتها عواطف منصور وسيلة أخرى لتعيش حريتها وتثبت ذاتها وكيانها، بعد الخزف والنسيج وصناعة الفكرة، هاهي تخوض غمار تجربة أكثر صعوبة، تجربة ولادة الكلمة.
عن توجهها للكتابة تقول تلك الحالمة «ليس للفن عمر، فكل يوم أضيعه دون قراءة لا يحسب من عمري، أحاول أن أجدد اساليبي، ربما أعيد البناء من جديد، ابحث في داخلي عن عواطف الكاتبة ولم لا الناقدة في الفن التشكيلي ومن سؤال «عواطف هل حقّقت ما تريدين؟» ولد هاجس الكتابة.
اختارت الكتابة في الفن التشكيلي وتقديم مقالات نقدية عميقة في مجلات عديدة مختصة في الفنون واستطاعت أن تصنع لها اسما في هذا المجال وصعدت درجات النجاح من محررة إلى نائب رئيس تحرير مجلة «منمنمات» و مدير تحرير مجلة «اوكر» كما أنها من هيئة تحرير مجلة «التخطيط العمراني والمجالي» تجارب متعددة تؤكد من خلالها أنّ همّ الباحث الحقيقي لا يقاس بالمهاترات والتواجد العشوائي أينما كان وإنما يقاس بركونه إلى منهجية بحثية ميزانها الوعي الثقافي وأساسها التفاعل مع اختصاصه وربطه بالحقول المعرفية ذات الصلة به، و»لعله دربي منذ أن زاوجت في بحوثي بين اختصاصي في حقول الفنون وبحوثي في حقول التراث، وهي ليست بالعلاقة الجديدة ولكنها قديمة جديدة نراوح فيها نحن الباحثون الجادون بين متطلبات العصر وأصالة التراث».
الكتابة عملية ابداعية حسب عواطف منصور، الكتابة أنثى وتحبير الكلمات موهن وموجع لكنه ممتع، توجهت إلى الكتابة لإيمان قوي «أننا في حاجة ملحة اليوم لقراءة هذه التجارب الفنية العربيّة المتنوعة المباحث الجمالية والمختلفة الأساليب التي يزخر بها العالم العربي.
من الخزف إلى النسيج فالكتابة، أستاذة نجحت في نقل حب الخزف الى طلبتها بعد عدة أعوام قضتها في التدريس في القصرين قبل المجيء إلى منوبة، امّ تعتني بتفاصيل أبنائها زرعت فيهم حبّ الفن كمطية للحياة، خزّافة تتقن الحرفة وتقنياتها، نسّاجة تعرف «النول» و«الغرزة» ويمتعها صوت «الخلالة»، وهي كاتبة استطاعت أن تخلق لنفسها مكانة بين مجموعة من النقاد.
امرأة فنانة أنموذج للمرأة التونسية القادرة على صناعة كيانها عن كلّ هذه التجارب تقول الفنانة»أنا امرأة، خلقت لأبدع، لأغير الأفكار وأجدد، بالفن يمكن أن نغير، بالفن نقدم شحنة معنوية، شحنة الحب، بالفن اصنع كياني فوراء كل امرأة عظيمة ذاتها»، وتضيف» أراني في كل تونسية مميزة، أجدني في كل امرأة قوية، أجدني في آمال القرامي وسعيدة قراش وسلوى الشرفي وسنية مبارك وسنية الشامخي وصفية فرحات وفاتن شوبة وسناء جمالي، حتى الفنانة التي تكون على الركح للغناء أرى وجهي على محياها، كل امرأة ناجحة في مجالها أرى فيها ذاتي».
ها انّ الجولة مع عواطف منصور والدخول إلى خباياها وتفاصيلها تكاد تنتهي وفي نهاية الرحلة توجهت الفنانة برسالة إلى المرأة بمناسبة اليوم العالمي للمرأة مفادها « كوني كما أنت، امرأة تعرف حقوقها وتفتكّها، تصنع من ابتسامتها سلاحها، لا تكوني سلبية ولا تفكري في الآخرين على حساب ذاتك، اثبتي للجميع انّك مرا وللات النساء وافتخري انّك أنثى ومن خبايا روحك يبعث الكون».

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115