في كتاب من إعداد ابنته بعنوان «منوبي بوصندل»: عطاء فني لقامة إبداعية تونسية و عربية

بقلم: شمس الدين العوني
«... حين عدت الى دفاتر مخطوطاتك و أوراقك المبعثرة التي رسمت و بصمت عليها عاد بي الزمن الى حيث تخفت تفاصيل الرحلة ...

رحلتك في الوجود الذي حولته الى موجود بلغة الحس و الفن و اللون... أقول هذا و أنت ذاكرة يتقاسمها معي كل من عرفك أو صادفك في لقاء من اللقاءات...و أردف أنك لم تكن مجرد عابر سبيل بل وجدتك مقيما في كل مكان و أوجدتنا رسومك في كل زمان (....) تركت خلفك ذاكرة نجمعها في مؤلف اجتمع حوله الأحبة و الأصدقاء بشغف في تقديم الشهادات حول ذكريات جمعتك بهم .....»....نعم انها لعبة الفن حين تستبد بمريدها الطفل الحالم الطامح المسافر الباحث....الباحث عن تلويناته الموزعة في الأرجاء لا يرتجي شيئا غير القول بالأبجدية تنحت أصواتها و معانيها في الفضاء الشاسع الذي يرونه محددا و يراه هو مفتوحا على الأكوان و ما تسعه من جمال و دهشة و حيرة و ذهول حيث المعنى هو العنوان العالي للجمال الذي رآه صاحبنا بعين القلب لا بعين الوجه..في تلك السنة التسعينية من قرننا الماضي ..و تحديدا عند أيام انطلاق احتفاليات ستينية شاعر تونس الراحل ابي القاسم الشابي حيث كنا مجموعة من الشعراء و النقاد نستعد لأمسيتنا الشعرية على غرار عدد من الأماسي و الأصبوحات التي كانت ضمن جولة من الشمال الى الجنوب بالمدن و المناطق التي عاش فيها الشابي وهو يتنقل في البلاد ...قبيل أمسيتنا الشعرية بباجة في دار الثقافة عمار فرحات سنة 1994 لنمر بعدها الى مدن أخرى وصولا الى الجريد و فيه محطات هي نفطة و حزوة و توزر... ونحن نهم بالدخول الى قاعة دار الثقافة عمار فرحات قال لي الشاعر كمال بوعجيلة مقدما لي الرجل الذي صافحنا « شمس هذا صديقنا الفنان التشكيلي المنوبي بوصندل جاء ليحضر أمسيتنا و هو يحب الشعر و صديق الشعراء و من جهة منزل عبد الرحمان ببنزرت..»....فعلا أعرف الاسم و الشخص من خلال اهتمامي بالفنون التشكيلية ولكنها المرة الأولى التي ألتقي فيها الرجل لنصبح أصدقاء وتكرر لقاءاتنا و منها ليلة قضيناها في ضيافة القاص صالح الدمس ببيته بعد اقامة أمسية شعرية بمنزل عبد الرحمان حيث كان الحديث مفتوحا على الفن التشكيلي والابداع و الثقافة و الشعر و غير ذلك..


ثم كان نصي عنه و عن تجربته بـ«الرواق» المجال الأسبوعي للفنون التشكيلية بجريدة الصحافة و باشراف الصديق عمر الغدامسي...أعجب بوصندل بالمقال الذي كان بمثابة البورتريه ضمن تجربة تنهل من عوالم الفنانين وتجاربهم و من خلال ما تضفيه اللغة و الكتابة الأدبية على لعبة التعاطي معهم من إيغال في الذات المبدعة... وكل ذلك بمثابة العمل المشروع الذي اعمل عليه منذ حوالي ثلاثة عقود ليشمل أسماء و تجارب من البارزين الأموات و الأحياء و منهم أذكر عمار فرحات و الهادي التركي وعبد الرزاق الساحلي وابراهيم الضحاك و الخياشي و شبيل الزنايدي وبن مسعود و العزابي و قويعة و المالكي و الرقيق ...و غيرهم.....صاحبنا رحمه الله هو فنان من أبرز الفنانين التشكيليين التونسيين ضمن جيله لحساسيته الفنية المخصوصة و هو ما يبرز في جل أعماله التي كانت ضمن معارضه الفردية و كذلك الجماعية.
في كتاب فني مميز من الحجم الكبير عنوانه «منوبي بوصندل» يضم 128 صفحة نجد نصوصا و صورا في سياق بمثابة السيرة الفنية التشكيلية لفنان عرف بين جيله و عموم التشكيليين التونسيين بشغفه و دأبه تجاه الفنون التشكيلية وعوالمها من شؤون و شجون الفن و التقاءاتها بمجالات إبداعية وثقافية أخرى و منها خاصة الأدب و الشعر تحديدا فمن لا يذكر حضوره اللافت لمختلف الفعاليات الشعرية ومجالسها و خاصة ملثقى منزل عبد الرحمان الأدبي وهنا و في هذه اللقاءات كان يتابع التفاصيل و القصائد بكثير من العناية فهو قليل الكلام و لعله بذلك يشحن ذاكرته ودواخله وروحه مستلهما و مقبلا على القماشة و البياض بنفس جديد متجدد فيه الابتكار نحتا لحالة تلوينية فيها الكثر من الشعر....نعم جل تلويناته و أعماله فيها حالة باذخة من شعرية المشهد و الفكرة و الحالة و التفاصيل و هو الفنان الحالم المتأمل يأخذ الناظرين الى لوحاته المتأملين مثله تجاه شواسع من شعرية التعاطي الجمالي مع القماشة حيث تكون اللوحة مجال حيوية و تشابك خطوط وتنوع لوني وغير ذلك من ممكنات تكوين طقس فني فيه رغبات شتى للمنوبي وشجن خافت وأيضا أصوات وكلمات..نعم العمل الفني لديه ضاج بالحياة بتنويعاتها بقدر هدوء بوصندل وأريحيته.. أنها لعبة الفن والذات ... تبرز ضمن تجربة صاحبنا الفنان الراحل المنوبي و التي تطبع مسيرته و تبرز بين طيات هذا الكتاب الفاخر الذي أعدته بعناية ونجاح ابنته الدكتورة و الفنانة أحلام التي نسقت مضامين الصفحات والإعداد و الإخراج بما يتلاءم و يتناغم مع أهمية التجربة و المسيرة و المنجز...و كل هذا العطاء الفني لقامة ابداعية تونسية و عربية عبرت عن نظرتها الجمالية تجاه ذاتها وتجاه الآخرين..تجاه العالم..نعم تجربة المنوبي بوصندل فيها الخصوصية و الكثير من ممكنات القراءة..القراءات..صور و شهادات وتناولات للتجربة تقابل كلها أغنية رجل دفينة أداها باللون ..هذا اللون المسافر في أزمنتنا يرتجي صاحبه جوهر الأشياء وكنه التفاصيل وفق النظر بعين القلب..لا بعين الوجه..مسيرة شاسعة مفعمة بالتنوع في المضامين و الأساليب التشكيلية فالفنان التشكيلي التونسي منوبي وصندل توزعت أعماله الفنية لفترة تقارب نصف قرن ضمن نشاطه الفني والثقافي على تيمات متعددة من المشاهد الى البورتريهات الى الطبيعة الجامدة ...

وغيرها وهو الذي كان يحرص من خلال لوحاته وفنه الى إبراز فكرته و هي بمثابة رسالة الفن و الفنان الذي يرى الأشياء والاحوال والأحداث من زاوية جمالية خاصة وفق اهتماماته بالفعل الثقافي الوطني و دور العبارة التشكيلية ضمنه كما أنه كان رحمه الله من الذين أسهموا في فعاليات الحياة الفنية والتشكيلية و ذلك بتخيره لخصوصية الذات والبصمة بعيدا عن كونه ضمن تيار تشكيلي أو مجموعة فنية هاجسه الذات و استحقاقات دواخلها الجمالية و ما يلتقي مع كل ذلك من أجناس فنية ثقافية و منها بالخصوص الشعر والأدب ...كان فنانا حالما يبتكر آفاقه الرحبة بين أحلام ونقاشات و جدل الشعراء خاصة من يفد منهم على بلدته منزل عبد الرحمان..ألوان و خطوط متداخلة و متشابكة بفوضى فيها الكثير من العناء و العناية التشكيلية و ألوان بين القتامة و بؤر النور لتبرز المفردة التشكيلية البوصندلية حاضنة لقراءات و نظر آخر فتبرز على هيئات دالة على الجمال يقاوم وضعية الآلة لينتصر للحالة.. حالات من فتنة اللعبة التشكيلية و سحرها الناعم الذي ينطبع بعد تمعن و غوص لوقت و أوقات في ثنايا العمل الفني من القواش و الأكريليك والزيتي والخطي وغيرذلك .. لون بالرسم أمكنة و مدنا تونسية وأوروبية في روح لونية تستلهم من اللغة و الشعر تحديدا خفة العبارة وألق القول وسحر التعاطي و هو الفنان الرقيق الميال للصمت والوحدة أحيانا ديدنه التأمل قبل الانهماك في اللوحة والتجدد و ابتكار المضامين يجترح من كل هذا خلاصة ما به تنعم شواسعه و الدواخل باللون في مساحة العمل ينساب في فوضى مقصودة وهادئة بالنهاية قراءة و تأويلا ..فنان موهوب ومجتهد ومبدع يذكر من تعلم عنهم على غرار برجول وصفية فرحات والخماسي وبنينو و جاك أرنو... من المدن والأمكنة و البحر والطبيعة والمشاهد الثقافية و الفلاحية و البيئية وشؤون وشجون المرأة والتفاصيل الأخرى منها اليومية كانت فسحة بوصندل التشكيلية طبعتها تقنيته وطريقته التشكيلية التي تكشف وتحجب الفكرة المقصودة والموضوع في ضروب من التلوين بين القتامة و بؤر الضوء و هو ما يعبر عن حالات الفنان و اعتمالاته الفكرية و الثقافية و النفسية كما أن الذات الفنانة لديه مسكونة بشيء من الحنين و و هو ما يضفي جمالية من نوستالجيا الحالة تجاه أزمنة و أمكنة فيها ايقاع يأسره ونبض يجذبه اليه..يصغي اليه..المنوبي بوصندل فنان متأمل ينتقي ممكنات لعبته التشكيلية بشغف عرف به و حافظ عليه بعيدا عن المألوف و المعتاد..ولد بوصندل هذا الفنان الطفل الحالم المتجول المسافر في والى الأمكنة بمدينة أحبها وأحبته هي ببنزرت و اسمها منزل عبد الرحمان و ذلك يوم 15 أكتوبر 1939 و مر بالكتاب وبالمدرسة ثم بجامع الزيتونة و اثر ذلك بالمعهد الفني بتونس كما أنه درس بمدرسة الفنون الجميلة بتونس و تحصل على الإجازة في الفنون التشكيلية من جامعة السوربون و بعد ذلك كانت تجربته بالتدريس حيث درس التربية الفنية وقدم أعماله في معارض ببلدان منها الجزائر والمغرب وليبيا ومصر والعراق وألمانيا و فرنسا و هولندا و كندا ...
وضمن اسهاماته الفنية أسس المنوبي بوصندل عددا من الفعاليات و ساهم في غيرها و منها بالخصوص الفعالية السنوية للفنون التشكيلية وصالون ربيع الفنون التشكيلية ببنزرت و كان عضوا باتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين منذ تأسيسه و عضوا بالجمعية العالمية للفنانين المحترفين بباريس - اليونسكو كما أنه تحصل على جوائز وطنية و دولية و هو من مؤسسي مجلة أجيال الثقافية و نشاط مجالس الثقافي بمنزل عبد الرحمان اضافة الى آرائه و مقالاته المتصلة بالفن التشكيلي و رسم عددا من كتب الأطفال والمجلات الثقافية ودواوين الشعر ..هذا حيز من عوالم الاحاطة بالتجربة و المسيرة عند الراحل الفنان المنوبي بوصندل و قد جاء الاهتمام بهذا الأمر من قبل الفنانة و الدكتورة أحلام بوصندل التي احتضنت السياق الجمالي للوالد الفنان بهذا الكتاب الذي نحن بصدده و الذي يعتبر بمثابة الجهد الثقافي و الفني و الابداعي ..كتاب مهم تجاه مسيرة مميزة في مجالها التشكيلي و عمل بمثابة العرفان تجاه الراحل ... كتاب في اقتفاء أثر المنوبي الفنان الانسان بدعم من وزارة الشؤون الثقافية و ضمن مشاريع صندوق التشجيع على الإبداع الأدبي والفني...صور ونصوص وشهادات لفنانين و نقاد و مهتمين بالشأن الجمالي ...كتاب المنوبي بوصندل مجال لاستذكار تجربة و تأمل مسيرة فنان واكتشاف وكشف لمن لم يطلع على تجربته...وكما قالت معدة الكتاب ابنته الفنانة أحلام بوصندل «..أنت ذاكرة يتقاسمها معي كل من عرفك أو صادفك في لقاء من اللقاءات..»....هي فسحة و كتاب و تجربة و لون آخر من التجربة التشكيلية الحديثة في تونس.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115