عرض «المجاذيب الثلاثة» لكريم توايمة في قاعة الفن الرابع: الرقص يحفر في الذاكرة والمخيال التونسي ...

الجسد لغته للتعبير، الجسد وسيله لكتابة لغة جديدة ومتجددة، الجسد مطيه للغوص في التاريخ ونفض الغبار عن الذاكرة الجماعية وتقديمها للمتفرج

باسلوب جديد وممتع، الجسد طريقه للإبداع وطريقه لتقديم الموروث الشعبي الشفوي والمحكي بلغة الجسد، هو كريم توايمة الذي عرفه الجمهور في اكثر من عمل يتوجه الى تاريخ موسيقى السطمبالي ويصنع منها عرضا راقصا.
العرض في هذه المرة من إخراجه وهو «المجاذيب الثلاثة» هو رحلة في الاغاني والشخصيات التراثية التونسية من «البوسعدية الى «عكاشة» و»الشيخ» في عيساوية البلوط ، رحلة نحتها كريم توايمة وقدمها على الركح قطب الباليه والفنون الكوريغرافية و«المجاذيب» هي جمع المجذوب، تعني المنغمس في حضرة الذات الإلهية والمنعزل عن العالم الذي يسافر بروحه إلى مكان آخر، والجذب بالعودة إلى التراث هو ما يحدث إبان «الزردة» وهي الاحتفاء بأحد الأولياء.
البوسعدية رقصة الذاكرة المنسية
الجسد لغة أو وسيلة لحمل المبنى والمعنى، الجسد لغة للتاريخ ولفتح الأوراق المنسية ، الموسيقى الصاخبة تصدح في كامل القاعة، في الخلف شاشة عملاقة تمرر مجموعة من الصور أشبه بالنار التي تأكل الهشيم، هي نيران النسيان، نيران الوجع وحرقة الروح التي أكلت قلب وروح ذلك الملك الذي جاب الأرض وتاه بحثا عن قرّة عينيه المخطوفة، تخفت الموسيقى ليحل محلّها صوت الراوي الذي يتحدث عن بوسعدية، الذي «يشطح موش ترف، يشطح للوجيعة» فالرقص هنا ليس للترف أو الترفيه بل هو فنّ النضال للحفاظ على الروح، الرقص عند كريم توايمة لغة رافضة ومقاومة لكل أشكال التمييز والظلم تماما كرقصات البوسعدية.
لتقنية «الراوي» وقعها الجيد عند المتقبل التونسي إذ تذكره بمجد عبد العزيز العروي وقصصه التي كان يقبل عليها الصغار قبل الكبار، في تماهي صوت الراوي مع تقنية المابيغ صورة ممتعة، هي مزيج بين القديم والجديد في العرض الراقص فمخرج العرض قدم شيئين متباعدان زمنيا «الرواية المسموعة في الراديو» و «المابينغ التقنية الحديثة» وفي المزج بينهما خلق طريقة مختلفة للعرض الكوريغرافي.
تزول الكتابة من على الشاشة ومن الأروقة المصنوعة من القماش الأبيض، لتجدك أمام ثمانية راقصين، بألوانهم الزاهية، هي الألوان التي كان يلبسها البوسعدية ليظهر بمظهر المتسول الذي يمارس الرقص والصراخ، يتحرك الراقصون على الركح في تكامل وتماه، نفس الخطوة تتسارع تدريجيا ثم يعلو صوت الأصفاد والسلاسل كأنها تعبيرة عن صرخات الاميرة المخطوفة، الراقصون يؤدون رقصتهم في شكل دائري وللدائرة معنى الحياة ودوران الأرض فكلما اكتملت الدائرة انبعثت صرخة لتشتّتها ويعيد الراقصون الكرة فمن فلسفة الحياة تعامل كريم توايمة مع البوسعدية.
صليل الأصفاد وموسيقى السلاسل تعلو في القاعة، صوت الجوع يصنع موسيقى الجزء الأول من الرقصة، للشقاشق التي ميزت موسيقى السطمبالي حضورها القوي تلك النوتات الضاربة في الوجع هي جزء من الذاكرة الموسيقية المنسية، هي لغة المظلومين وصدى لأرواحهم المعذبة، حركات الراقصين وضربات الأقدام على الركح تحاكي تلك الموسيقى، الحركات مزجت بين التقليدي والعصري، الرقصة تجمع شطحة السطمبالي المعروفة بتسارع الأقدام مع هزّ الرأس بعنف مع طريقة تحريك اليدين كما رقصات الهيب هوب فالراقصون جمعوا بين التقليدي والحديث لتقديم رقصة يعرفها التونسيون بطريقة مختلفة يقبل عليها الكبار والشباب.
الجسد يحاكي الموروث الساخر
صوت الراوي عنوان انتقال من رقصة إلى أخرى، الرقصة الثانية تبدأ من القاعة، أجساد تتحرك جميعها تلبس «القشابية» البنية اللون، التقليدية، جميعهم يتحركون في خط واحد وأصوات السلاسل تحدث في القاعة موسيقى خاصة، يصعد الراقصون على الركح، تحاول الشخصية التي توسطت المكان الإفلات من السلاسل وكلما تحركت وضربت السلاسل كان الرّكح لصداها موسيقى كما الخوف أو الرغبة في الفكاك والتخلص من القيود، بعدها ترتفع موسيقى تشبه نوتات الجاز فتكون الصورة مفعمة بالمحلية والعالمية، لابسي القشابية يرقصون على إيقاعات الجاز وحركاتهم المتسارعة كأنها عنوان لتسارع الهويات والأنماط الموسيقية في تونس.
شخصية «عكاشة» هي الشخصية الثانية التي تناولها العرض، عكاشة هو الذي تحمله موسيقى البندير إلى عوالم أخرى فيرقص دون هوادة يرقص إلى حد الشعور بانفصال الروح عن الجسد، وأثناء الرقصات المتسارعة يرتفع صوت موسيقى الحضرة ويعيش الراقصون حالة «التخميرة» التي يتفاعل معها جمهور قاعة الفن الرابع، لان الحضرة جزء روحي يمسّ كل المتفرجين التونسيين تقريبا.


يخفت الضوء، تختفي الأجساد، تعود تقنية المابينغ مع صور هلامية وألوان متباينة كأنها رحلة في بلاد العجائب حتى تصبح كما تلك الدائرة التي تحمل الإنسان إلى زمن آخر، تختلف الإيقاعات الموسيقية من الجاز والهيب الهوب ليعلو صوت يتحدث بلهجة تونسية عن «الشيخ» «المخماخ»، ويظهر على الركح الراقصون بألوانهم الزاهية واللّحي الطويلة والطرابيش ذات الألوان والأحجام مختلفة، وجُبة وأزياء بأكمام واسعة بالإضافة إلى أحذية طويلة، مع الحركات المضحكة، فبالرقص يعودون إلى شخصية «الشيخ» في عيساوية البلوط، وهي مجموعة موسيقية من الموروث التونسي مجموعة ظهرت في السبعينات لتقاوم بالضحكة التزمّت والتخويف، عيساوية البلوط لا تشبه «العيساوية التقليدية او موسيقاها» وكلمة «البلوط» هنا لا تعني «شجرة البلوط» وانما تعني «الكذب» وقد ظهرت الفرقة لتسخر من شخصية الشيخ.
الشيخ على الركح يصبح شيوخا، جميعهم يلبسون لباس الشيخ ويتماهون مع حركاته ولمسه الدائم لبطنه كما تقول الاغاني الهزلية، فالشيخ هو الشخصية المحوريّة لعيساوية البلوط، فجميع الأغنيات الهزلية تتحدث عنه وكأن بمؤسسي «عيساوية البلوط» انذاك أرادوا ان يزيحوا هالة القداسة عن الشيخ الذي احتل مكانة هامة في قلوب التونسيين إلى حدّ تنزيهه على الخطأ ليظهر الشيخ نهما مولع بالأكل كما تقول الأغنية التي ترددت في القاعة:
«يا شيخ يا مرنيخ خلي الأولاد تشيخ، الشيخ يحب فطور قصعة وعليها دور، دلاع باني سور، ومدافعوا بطيخ، الشيخ يحب يممّ 200كعبة عظم و200كيلو لحم وعلوش باش يشيخ» على كلمات الاغنية يتحرك الراقصون لتقديم صورة كاريكاتورية انطلقت من عيساوية البلوط، بأجسادهم الهزيلة حاول الراقصون التماهي مع بطن الشيخ التي تتقدّمه وحاكوا صعوبة الحركة ليصنعوا فرجة مضحكة وساخرة.
في «المجاذيب الثلاث» رحل الراقصون بالمتفرج الى الموروث الموسيقي التونسي، تجولوا بين الموسيقى الملتزمة والموسيقى الهزلية، تجولوا في الذاكرة الجماعية لتلخص لغة الجسد كل تلك الاختلافات وتقدمها في عرض تونسي الروح والصنع وعالمي التقنيات، عرض أساسه التماهي المطلق بين تقنية المابينغ وحركات الراقصين الذي كانوا كجسد واحد.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115