رواية «لن نعبر الجسر معا» للطفي الشابي: «لا مكان للحلم في هذا الوقت الكابوس»

ما معنى أن تكون فنانا؟ كيف تكون للفنان القدرة على بعث الحياة في العدم وصناعة عالم اخر مبهر فقط بحركة فرشاة أو جرّة القلم،

كيف للفنان أن ببعث الدهشة والخوف والفرحة في نفس المتفرج او القارئ او الباحث؟ كيف للفنان ان يصمد امام وجع الذات وعذابات الوطن وآلام المجموعة ويجمع كل ذلك الالم في خليط ينفث فيه من روحه فيصبح عملا فنيا مميّزا اسمه «لن نعبر الجسر معا».
اختلط في الرواية وجع الراوي بوجع الشخصية، تشابهت أحلامهما وآلامهما، من قوة محمد علي الدالي استمد لطفي الشابي الالهام ليواصل الكتابة ويغوص في تفاصيل شخصية جد مركّبة، ومن حكمة لطفي الشابي أن يأخذ من «دالي» رصانته وهو يكتب مذكراته فجاءت الرواية مزيجا من الواقع والخيال، ورحلة بين الالم والامل وكأنها انين الروح «كحبة بين حجري الرحى تنزف وتئنّ».
النساء الجريحات محاربات لا يغلبن
المرأة ذلك الكائن الهش والقوي هي محور الحكاية وسبب الرواية، دالي الفنان والرسام يعاني من وجع الانثى منذ الطفولة، في القصة نساء كثيرات، جميعهنّ اخذن من روحه القليل وسكبن فيه منهنّ الكثير، عن علاقاته المتعددة يقول دالي في اعترافاته مع نفسه «عشرون امرأة، بدا لي الرقم كبيرا، ولكن الجرد الذي قامت به فاتن نبهني الى انهنّ فوق ذلك، اغفلت ذاكرتها اسماء اخرى» (صفحة 65)، وجعه يعود الى عمر الثمانية اعوام حين وجد نفسه وحيدا في السبخة وسط الكلاب «الكلاب التي صرت مع الوقت أطواقهما وأخشى انيابها هي الكلاب الادمية الانثى هي وبناتها الكثيرات ، لم تتركني الكلبة ذات الاثداء المتدلية أبدا ظلت تناوشني» (صفحة52 )، وتواصلت مناوشات دالي الذكر مع الأنثى الانثى الذاكرة المنهكة بالصور الموجعة، الانثى الام الخائنة التي كانت الصدمة الاولى لطفل كبر على رائحة الخيانة ليمارسها في الكبر مع كل انثى، ويتحدث دالي عن مشهد الخيانة «من كون صغيرة سمعت التأوهات والأنّات، ظننت انها تبكي، هممت بان اقتحم الغرفة ان أواسيها مشيت على اطراف أصابعي ادركت الكوة الصغيرة، كانت كوة الجحيم، التي القيت منها نظرة على المرأة الغريبة، شبه عارية كانت، منفرجة الساقين، وفوقها جسد يتحرك، من الرجل الذي كان يجثو على امي يعضّها ويكبّل يديها؟ كدت أصرخ من وراء الكوة ان اترك أمي أيها الشرير؟ ولكني خفت، ولكن وجه امي حين انزاح عنه الجسد السمين لم يكن حزينا لم تكن تبكي ولم تكن تتوسل بل كان وجهها متوردا مضيئا ويداها كانتا تداعبان الجلاد، والجلاد لم يكن رجلا غريبا، كان عمي» (صفحة265).
الانثى الحبيبة التي هجرته
من لحظات الصمت الصاخب نجم الوجه البعيد الذي ظلّ حيا محبوبا رغم كل الاوجاع التي يوقظها في الروح والأوجاع لها اسم وحيد نادية (صفحة 95)، الاناث العاشقات الكثر والزوجة التي اتعبتها خيانات زوجها «عرفت تلك المرأة الفراشة كيف تروّض هذا الرجل المريض، عرفت مع فاتن حياة اخرى، معها ارتاح القلب من اوجاعي واحببت روحي فيها فسكنت اليها» (صفحة110) ، كلهن جزء من وجع دالي، المرأة في الرواية هي سرّ الفرح والترح هي المتحكمة في شخصية الرسام تحركه كما تشاء تلينه حينا وتزرع فيه الحقد مرات أخرى الانثى ذلك الكائن الغامض يحرّك الشخصية وأحداث القصة وتفاصيل حياتها فالنساء الجريحات محاربات لا يغلبن.
الفن فرح وترح
«لن نعبر الجسر معا» رواية تقوم على الاسترجاع، الشخصية الرئيسية تسترجع حكايات الطفولة والمراهقة ووجع الآني في الرواية راوح الشابي بين الاسترجاع والحوار المباشر، فالشخصية تتحدث حينا بصيغة الماضي ثم تنتقل الى الحاضر ومنه الى «الرؤيا» وفعل المضارع، وسرعة الانتقال من زمن الى اخر تجعلك تعيد القراءة لأكثر من مرة حتى تفهم قّصة دالي.
في الرواية شخصية فنان تعرف الكثير من الوجع النفسي، وجع يكبر لتصبح الأنا بمثابة الذئب المتربّص، يعاني من «الفايسبوك» او “المملكة الزرقاء التي لا باب لها او سور ، يقدّم الرسام نفسه وهو يكتب مذكّراته ويسرد وقائعه ويقول «اسمي محمد علي الدالي، عمري خمسون عاما، فنان تشكيلي وأستاذ في المعهد العالي للفنون الجميلة، متزوج ولي ولد عمره سبع سنوات، اعاني من داء عضال: ادمان العلاقات الغرامية ألافتراضية علاقتي الزوجية صارت مهددة، ليس أمامي الا هذا المخرج الأخير العلاج النفسي ان كان ممكنا» (صفحة 78) فالبطل مريض بالخيانة، تحركه الانثى يستدرجها الى شباكه عبر الفايسبوك ثمّ يتركها تتخبط في حباله قبل ان يعود الى صحوته.
تواصلت مغامراته وعزلته إلى حدّ ان اكتشف ولعه بالرسم «ازددت ولعا بالرسم من خلال محبتي لفان ڤوڤ، وخبا اعجابي بسلفادور دالي ذلك الذي اهداني الاسم فجعلته معلما ودليلا» (صفحة 210)، والمتبع للرواية ولتفاصيلها سيجد نفسه غارقا في الوان دالي وحركات «اصبعه السادس» الريشة وهو يحيي الموتى ويكتب الحياة كما يراها كما يقول في (الصفحة234) «الرسم هو من فتح قدامي السبل واختصر المسافات وحبّب الي الحياة وألهاني عن الذكريات، الرسم انقذني من مخاوفي ومن حذري من الآخرين اغرقت نفسي في الالوان والأشكال».
تتواصل آلام الفنان ومعه وجع الفن فيه، مشاكل الذات والمجموعة كلها تجعل من الرسام شخصية «سكيزوييد» وهو مرض نفسي عانى منه بطل الرواية مرض نهايته الانتحار او الجنون لكنه اختار «القتل» كتعبيرة ومتنفّس «في اعماقي ذئب يكبر، ولست قادرا على قتله، انا من غذى نابه ومخلبه» (صفحة250).
فقتل المرأة الفراشة حتى لا يحدث الطلاق ثمّ كتب اعترافه وسرد فيه كل تفاصيله النفسية منذ الطفولة الى لحظات قرار الانفصال الذي اخذته محبوبته وزوجته فاتن بعد انسداد سبل الوصال فقررت «عدم عبور الجسر معا» قتلها ثم كتب «ما جدوى ان يكتب اكل روحه حكاية قد وقد تهرأت روحه وصارت ذكرى قصية بلا ضوء؟ ما جدوى ان تموت بعد ان تقتُل بكل برود، ثم تكتب اعترافا باردا بكل حياد؟» (صفحة7).
وجع الذات من وجع الوطن
تغوص رواية «لن نعبر الجسر معا» في التفاصيل النفسية للشخصية المحورية، تتبع مغامراته الجنسية والافتراضية مع كل النساء اللواتي عرفهنّ في الرواية اسلوب شعري ممتع كيف لا وكاتبها شاعر بالأساس، الاستعارات جزء اساسي في الحبكة الرواية ومن خلالها يمكن توصيف «البلد» بالمرأة فالبلد كما الانثى اتعب الفنّان، في الاعترافات يصبح الوطن امرأة يغلبها الفنان حينا وتغلبه احيان كثيرة فيفشل في بيع لوحاته ويفشل في لقاء المندوبين والتواصل مع لجنة الشراءات، وهنا يكون وجع محمد علي الدالي بطل الرواية ولطفي الشابي كاتبها واحد فكلاهما عانى في الاقصاء بسبب ابداعه.
في «لن نعبر الجسر معا» تحضر تونس ما بعد الثورة وأحلام أجهضت يستحضر الرسام وهن الرفاق ويقول «رأيت اوجاع الرفاق الذين ابتلعتهم السجون» في الصفحة «128»، ويرى امامه المتطفلين الذين جنوا غنيمة غيرة الشباب عن الحرية فيقول «وازدحمت بجموع المتقلبين الراكبين على الاوجاع والقافزين من حبل الى اخر دون ان تخذلهم الحركات البهلوانية» لتنتهي رحلة التوهان هذه بخلاصة في الصفحة نفسها «واكتسحني صوت هادئ: لا مكان للحلم في هذا الوقت الكابوس» .
في الرواية يتتبع القارئ تفاصيل الوطن، يرى تشتت ابنائه يتلمّس خوف الصادقين وعدم مبالاة السياسيين، الرواية ليست بمعزل عن مخاض عاشته تونس، وشخصية الفنان جزء من هذا المخاض فهو يرسم لينقد ويدعو الى الوحدة والفنان لا يستطيع اغماض عينيه امام انّات وطنه ووجعه في ظلّ ظهور المتكالبين الجدد الذين اكتسحوا المنابر التلفزية للدعاية لأنفسهم وأحزابهم هؤلاء الذين وصفهم في الصفحة 125 من الرواية «نفس الاكاذيب ونفس الوعود ونفس الاتهامات المتبادلة، الجميع صاروا يحلمون بالمنصب السياسي، والمنصب لم يعد يعني في عرف الكثيرين إلا وليمة نملأ منها قدر المستطاع، ولا يهمّ الثمن، لا يهمّ الوطن»، فالوطن كما المرأة يحبّها الرجل حينا يدللها ثمّ يثور ويرمي بها عرض الحائط، في الرواية وجع الكثير ممن حلموا بالثورة ونتائجها، حلموا بعدالة حقيقية ورفاه اقتصادي واجتماعي، حلموا بتونس الأخرى تونس ثورة الياسمين فجنوا حلموا فأجهضت الاحلام ولم يجنوا غير الاوجاع الخيانات والخيبات المتكررة».
تقديم مادي لرواية «لن نعبر الجسر معا»
«لن نعبر الجسر معا» رواية للطفي الشابي،صدرت عن دار الاتحاد للنشر والتوزيع صمّم غلافها انس بن عربية اما الصور الداخلية فهي للمؤلف، الرواية جات في 287 صفحة توزعت على 12 فصلا وعنوان الرواية مستمدّ من الفصل الأخير وهي عبارة عن مذكرات تكتبها الشخصية المحورية، والرواية هي رابع روايات لطفي الشابي بعد «ما لم يقله الشاع و«المائت» و «هواووي» وسادس كتبه مع «واقفون والمدى واقف» و «نصف قمر على ليل الحديقة» وكلاهما في الشعر.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115